الغرائبية ودلالة العتبات في رواية "369 الأرواح المتحررة" لخالدة غوشة... ناهـض زقـوت



هذا عنوان دراسة كبيرة للرواية ستكون ضمن كتابي القادم حول نقد الرواية الفلسطينية، وما ننشره هنا هو مختصر للدراسة.


تأخذنا الكاتبة الروائية خالدة غوشة في روايتها التاسعة (369 الأرواح المتحررة) إلى عالم من الغرائبية والدهشة والغموض، عالم السحر والشعوذة والجان، هذا العالم الذي تحدثت عنه الكتب الدينية المقدسة، ولكنه ما زال جزءاً من الخرافات والطقوس الشعبية التي يؤمن بها بعض الناس وينكرها آخرون. هذا الأدب أو المضمون الأدبي ليس منتشراً في المشهد الأدبي الفلسطيني، ولكنه موجود في ثنايا العديد من الروايات ليس بشكل رئيسي بل ضمن أحداث السرد.

توحي الرواية في بنيتها السطحية أنها تتحدث عن عالم الجن والسحر بما صاغته من أحداث وشخصيات تتمثل في الصراع بين الخير والنور أو بين العقل والخرافة أو بين العلم والدين، ولكن حين تغوص في بنيتها العميقة بما طرحته الكاتبة من اشارات ودلالات داخل السرد تكتشف أن ثمة مكنونات فكرية وفلسفية كامنة في النص تحيل إلى مرجعيات خارج السرد. ولكنها بقدرتها الابداعية وبلغة بسيطة سهلة تمكنت من صياغة كل ذلك في عالم من الغموض والضبابية التي تكشف عن نفسها منذ العنوان والغلاف.

يمثل العنوان جزءاً من السياق السردي، والمدخل الأساسي لفهم أحداث الرواية. نحن أمام عنوان مثير (369 الأرواح المتحررة)، ولكي نفهم دلالات العنوان علينا أن نغوص أولاً في تفكيك العنوان ضمن السياق السردي، قد تبدو كلمتي الأرواح المتحررة مفهومة، بما أن الرواية قائمة على الصراع بين الخير والشر، إذن فالإنسان يتحرر من الخرافات والخزعبلات، وكل ما رسخ في ذهنه من رواسب الماضي، ومن العادات والتقاليد البالية، أو أفكار سائدة لا تنسجم مع الواقع والمنطق، وبانتصار الإنسان على هذه الرواسب سوف تتحرر روحه نحو عوالم من النور والأمان.

ولكن ثمة دلالة أخرى في العنوان (369) ماذا تعني هذه الأرقام الغامضة؟ وما علاقتها بالأرواح المتحررة؟. وهنا يكمن سر الرواية، فإذا فهمنا دلالة الأرقام تمكنا من الغوص في أعماق الرواية لفهم دلالاتها ومعانيها، خاصة أن المنزل الذي تدور حوله وداخله الأحداث يحمل رقم (369)، وكذلك الرواية قائمة في ترتيب فصولها على الأرقام، وفي التعبير عن أماكن الشخصيات، فنجد أن الشقق تأخذ الأرقام من (1 إلى 9)، فما دلالة هذه الأرقام؟، وما علاقتها بسرد الأحداث، وما علاقتها بحركة الشخصيات؟. حيث نعرف من السياق السردي أن جميع القاطنين في الشقق (5، 2، 7، 4، 8) يموتون في ظروف غامضة نتيجة الأفعال الشيطانية التي تقوم بها جليلة المقيمة في الشقة رقم (1)، ويبقى المقيمون في الشقق (9، و6، و3) على قيد الحياة، وهم الذين يغيرون حياة البيت المسكون بالسحر والشعوذة إلى الأفضل، وهذه الأرقام هي التي تكون الرقم (369)، إذن ثمة سر وراء هذه الأرقام. لقد كانت الكاتبة على وعي كامل بما تكتبه، واستطاعت تطويع اللغة والأحداث للهندسة الرياضية المستمدة من مرجعيتها الفكرية – الفلسفية في الكون والحياة. فنحن أمام رواية خارج المألوف تعمل على تفكيك العقل وإعادة بنائه، وهي بالغة الدلالة لغةً وأداءً وحواراً، وتحتاج الى قارئ متفتح الذهن ولديه مرجعية فكرية لكي يتمكن من الوصول الى رؤية العالم التي سعت الكاتبة للوصول اليها.



تفتتح الرواية عالمها على منزل يحمل رقم (369) ويضم تسع شقق تقيم فيها شخصياتها، وكل شقة تحمل رقم فنجد جليلة صاحبة المنزل، وابنها نجيب وزوجته صباح في شقة رقم (1)، وطوني وأمه جانيت وفي شقة رقم (2)، وجهاد طالب الحقوق في شقة رقم (5)، ومها مدرسة التاريخ في شقة رقم (7)، وعلي طالب علم الطاقة والفلك في شقة رقم (6)، وراية طالبة الموسيقى في شقة رقم (3)، ونورا طالبة الطب في شقة رقم (4)، ورنين في شقة رقم (8)، وسميرة المهندسة في شقة رقم (9). وثمة شخصيات أخرى كان حضورها أو ذكرها لاستكمال مشهد الأحداث وهي (جورجيت المرأة النصرانية، وعبده الذي يجلب الزبائن للمنزل، ونجلاء ابنة جليلة، وشمس، ودهار أحد الجان، وذات المحاسن جنية شهوانية، وقزح مارد جني).

تمثل سميرة السارد الرئيسي للأحداث، فهي البطلة كما يقولون في السينما، هذه البطولة استمدتها من كونها الأقدم في المنزل، والعارفة بخفايا الأمور التي تحدث في المنزل، سميرة مهندسة وتعمل في شركة هندسية كبرى بالقدس، وتبلغ من العمر أربعين عاماً، وعزباء تكره الرجال، تقيم في الشقة رقم (9) منذ سنوات طويلة، علاقتها بكل السكان جيدة ويعتبرونا قدوتهم وكبيرتهم في المكان، لما تمتلكه من قوة الشخصية والمعرفة العالية، وقدرتها على المواجهة وعدم الخوف، حتى أصحاب الشر يخافون منها ولم يستطيعوا إيذائها. 

تقدم سميرة المنزل الذي يمثل المجتمع، يحمل تاريخاً في صناعة الشر وإيذاء البشر، من خلال مالكته (جليلة) وأدواتها المساعدة (ابنها نجيب وزوجته صباح)، وتصفه بالكآبة والظلام والرائحة النتنة، وتصف الأعمال الشيطانية التي يقومون بها من سحر وشعوذة واستدعاء للجان، ولم يكن تسليط الشر باتجاه ساكني العمارة فقط، بل نجد أن زوارها من كبار القوم من سياسيين ورجال دين، والطبقات الأرستقراطية الذين يطلبون مساعدتها في قضاء حاجتهم المادية والمعنوية، وبذلك تمثل جليلة وأعوانها قوة أساسية في المنزل/ المجتمع تواجه بها خصومها أو من يخالفها ويتحداها بتسليط الشر عليهم. وقد تمكنت جليلة من الحاق الأذى بخمسة من ساكني الشقق، ودفعتهم إلى الموت أو الانتحار.

وتمكنت سميرة وفق خطتها من احتواء جليلة وكسب ودها، وبقوة المعرفة والوعي بذاتها، وباستخدام الحيلة والدهاء. حيث زرعت في أعماقها أن لها علاقة مع الجن (دهار)، وحبكت لها قصة زواجها من رجل جني في محاولة لنزع ثقتها بنفسها، وغرس أنها أقوى منها، تقول سميرة لها: "هل تعلمين أنني أمتلك قوة تفوق قوتك، وقوة الملك الذي تناديه". وهنا استسلمت جليلة لإرادتها وأكدت على كلامها "بأن دهار لا يظهر لأي امرأة إلا إذا كانت تمتلك قوة كبيرة". مما جعل جليلة تسلم لها وتثق فيها، واعترفت لها أن حاولت أن تؤذيهم هي وعلي وراية ولكنها لم تستطع فلديهم قوة خفية "أنت تملكين ما لا أملك، أنت محمية جداً وهذا سبب مكوثك هنا، رغم أنني لم أكن أحبك، إلا أن قوة ما كانت تشعرني بالأمان بوجود بمنزلي، وشيء خفي يقيد عقلي عن المساس بك". وبعد عدة جلسات بين سميرة وجليلة، وزيارات للمقابر والغابات والأماكن المهجورة التي ترتادها، أصبحت جليلة تشعر بثقة كاملة فيها، فأخذت تطلعها على أهم أسرارها ما فعلته بابنتها نجلاء، وما تفعله مع زوجة ابنها صباح، وتكشف عن حياتها الخاصة وعن عالمها الشيطاني، الذي يعبر عن مدى الحقارة والشر الكامن في أعماق هؤلاء الدجالين، الذين يستهترون بكل القيم من أجل تحقيق أهوائهم ومصالحهم، ولا تعنيهم القيم الدينية والأخلاق الاجتماعية. وفي رأي سميرة: "قمة البعد عن معرفة الذات والعلم والدين".

وهنا تقرر سميرة انهاء اللعبة، وتمارس سيطرتها على جليلة وتجعلها تنفذ كل طلباتها بهدف التخلص من شبح نجلاء. أخذت جليلة إلى المقبرة لكي تلقنها وأعوانها درساً قاسياً، والقضاء عليها بنفس أدواتها وأسلوبها وطريقتها التي تؤذي بها الناس، فتجعلها تشرب البول، وتتناول الأنياب والاظفار، وتدخل الأفعى والعقرب في صدرها، وتركتها سميرة عند المقبرة تعاني لحظاتها الأخيرة والابتسامة لا تغادر وجهها فرحاً بموتها وقتل الشر، وفي الصباح وجدوها ميتة.

أمام ما حدث يقرر نجيب بيع البيت والتخلص منه بعد موت أمه وزوجته، فما كان من سميرة إلا أن تعلن استعدادها لشراء المنزل، وتصبح هي مالكته، وبعد أن يقبض نجيب ثمن البيت يغادر، وفي الصباح يكتشفوا أنه ألقى بنفسه في البئر، وبذلك ينتهي مصير عائلة جليلة.

وتتحدى سميرة عالم الجن بتغيير معالم المنزل بالترميم وتغيير تقسيماته، بالاتفاق مع أحد المقاولين بجعله فيلا صغيرة من ثلاثة طوابق، مع حديقة وبركة سباحة. وعاش معها في المنزل علي وراية، فهما ركناها الأساسيين. وقد تزوجت من زميلها "حليم" المهندس في إحدى الشركات الكبيرة، وأنجب طفلة اسمها "خالدة". وبقي رقم الفيلا 369، وأصبح الرقم الكوني الخاص بها في الحياة.

إن الدلالات العميقة التي طرحتها الرواية تأخذ القارئ إلى عالم من التعقيد والتوهان بين المضمون والأفكار المبثوثة بين ثنايا السرد، تجعل القارئ يتساءل ماذا تريد الكاتبة من سرد الأحداث، لذا تحتاج الرواية إلى قارئ متميز بثقافته، وإلى ناقد مبدع يمتلك المعرفة والوعي، لكي يتمكنان من سبر أغوارها، فهي رواية غير تقليدية في مضمونها ودلالاتها، ورغم أن مضمونها قائم على السحر والجان، إلا انها رواية فكرية فلسفية استندت للعلم في التعبير عن مضامين أعلى من كونها حكاية من السحر والشعوذة. 

لقد استطاعت الكاتبة بطريقة فنية مبتكرة، وأسلوب أدبي بارع، وفكرة جديدة، أن تجعل من حكاية الجان والسحر وأعمال الشعوذة، أي العالم الغرائبي واللامعقول، خلفية لبث أفكارها ورؤيتها بالتوافق مع العلم، وتمكنت وفق رؤية محكمة من رسم عالم من الواقع المتفاعل مع الكينونة العليا والشعبية، لتصل إلى مبتغاها من هذا العالم القائم على التفريق بين العلم والخرافة، فإما نؤمن بالعلم أو نؤمن بالخرافة لا خيار آخر، فنحن مخيرون لا مسيرون، علينا الاختيار، والايمان ليس بالاعتقاد فقط، بل بالقوة القادرة على ازالة الخرافة من جذورها، وتحويل هذا العالم إلى عالم قائم على العلم والتنوير، وحينها سيتحول إلى جنة.

فمن أين استمدت سميرة قوتها لمواجهة الشر وتولي زمام القيادة؟. لقد منحتها قوة الإيمان بالله الهدوء والسكينة والتفكير السليم، فهي لا تنام على سريرها إلا مع اذاعة القرآن الكريم، وحينما يستغرب أصدقاؤها من المامها بالدين تقول: أنا لست ملمة بالدين، لكني ملمة جداً بمعرفة ذاتي، وذاتي من الله .. ومن عرف ذاته جيداً، عرف دينه جيداً، فكل آيات الدين وكل رسائل الدين موجودة في ذواتنا". لقد كانت رؤية سميرة قائمة على الحذر في التعامل مع العوالم الأخرى لأن الله حذرنا من هذه الأمور، وعلينا أن نتعامل في هذا الكون وما فيه لصالح الإنسان، أليس الأنسان هو الخليفة على الأرض كما تقول.

وقد كشفت سميرة عن سعة اطلاعها على عالم الجن والسحر، بما بثته من أفكار عند جليلة، وهذا يرجع إلى قراءتها في كتب الأقدمين مثل كتاب "الطب النبوي"، وكتاب (شمس المعارف الكبرى) الذي جاء ذكره، دون تسميته، في حديث علي عن الرجل الغامض الذي نبهه إلى الكتاب الذي اكتشف وجوده في القبو، وقد دار نقاش بينهم حول موضوعات الكتاب، وفيما يتعلق بموقف الدين من أعمال السحر والسحرة، حيث تستغرب راية من "تحول تلاوة آيات القرآن من عبادة مباحة إلى شرك وسحر"، فما كان من سميرة إلا أن ترد عليها وتقول: "بأنه جرى انتاج العديد من الارشادات التي تهدي عامة الناس لكيفية الاستخدام الصحيح للقرآن في إبعاد الجن والاستشفاء والحماية من دون أي وسطاء". ويؤكد علي ما جاء في الكتاب بأن السحر لا سبيل إلى مكافحته إلا من خلال القرآن، وليس من خلال اللجوء للسحر المضاد أو للسحرة".

وأكدت سميرة عن إيمانها عن ضعف عالم الجن أمام قوة الإنسان، حينما وقفت في المقبرة وجليلة في نزعها الأخير قالت لها: "قولي لي يا جليلة الآن، أين هم أعوانك لينقذوك أو يساعدوك، ألم تقولي أن الأنياب والاظفار لا تقتل إذا وضعت في الطعام، ألم تقولي أن البول يساعد ولا يضر، ألم تقولي أن الأفعى والعقرب لهم جنود لا يؤذوك، واليوم أنا أقول لك ما لا تعلمينه، أنا الانسان أقوى منك وأقوى من جميع ملوك الجان وأكبر من دهار، الشر ليس بحاجة للاستعانة بالجان ولا بأي أحد، كل منا يملك الشر، ونحن مخيرون ولسنا مسيرين". ويعترف الجني دهار بقوتها أمام قوتهم، ويضع نفسه في خدمتها وتلبية مطالبها، ويؤكد لها أنهم بحاجة إلى عالمهم، ولا يأخذون الإنس إلى عالمهم. 

ومن خلال المقابلة بين عالمي الجن والإنس، رسمت الكاتبة سرد أحداثها على مثلث التنوير، فالإنسان عليه الاختيار بين عالم الشر القائم على الظلام، وعالم الخير والنور القائم على العقل والعلم، فكانت سميرة التي مثلت رقم (9) في المثلث هي الأقوى، فهي رمز التنوير، التي تمكنت بعلمها وايمانها بذاتها وربها من القضاء على الشر، وساندها علي الذي يمثل الرقم (6)، وراية التي تمثل رقم (3)، فهما قاعدتها ومسانديها في القضاء على الشر، بذلك حققت الكاتبة رؤيتها الفكرية، وأقنعتنا كقراء بفكرتها من طرح مسألة الجن والشعوذة، ورسالتها من تلك الخلفية.

تتكرر لازمة "ابتسموا فإنكم ميتون" في عدد من المواقف داخل السرد، تلك حقيقة كونية لا خلاف عليها، فالكل ميت غير خالد، لذلك عليكم الابتسامة ولا تعني الضحك، بل خلق السعادة والفرح والسرور في الحياة، بعيداً عن الشر والانتقام. وهذا ما فعلته سميرة حينما اشترت بيت الشر، لكي تنهي الشر فهدمته وحولته إلى فيلا بما يحيطها من بركة سباحة وأشجار وزهور فأصبحت كأنها جنة، وبهذه الرؤية التي ختمت بها الرواية كأنها تقول الإنسان المؤمن بذاته وربه يستطيع بنفسه أن يخلق جنته على الأرض.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-