الباحث الإسلامي: مهدي سعيد كريزم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
لماذا خلقنا الله تعالى ؟ فالجواب المباشر السريع ؛ والمعروف عند كل الناس هو ان الله تعالى خلقنا لعبادته ، والدليل قوله تعالى في سورة الذاريات ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون )
فهذا الجواب صحيح في الجملة ، ويكفي ان يكون جوابا ، ولكن دعونا نضيف -ايضا - قوله تعالى في سورة البقرة : ( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة ) فهذا سبب اخر للخلق ؛ ان يكون خليقة ، اي خليفة لله في الارض ؛ او عن الله في الارض ( ان جاز هذا التعبير)
وخليفة يخلف بعضهم بعضا ، ثم جاء الرد من الملائكة فورا ! اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ اذن ذلك الخليفة من الانس سوف يفسد في الأرض بالمعاصي والخطايا ؛ وسوف يسفك الدماء بالقتل والاجرام … ومثله كذلك الجن ففيهم الفساد والقتل والخطايا .. اذن : فهذا الخليفة البشري الانسي ليس مؤهلا لعبادة الله تعالى ؛ العبادة الحقة الشاملة الكاملة ! لأن هذه الاية ( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة..)
تفيد انه لم يخلقه للعبادة ابتداء .
ثم لننظر ايضا في قوله تعالى في سورة هود ( ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولايزالون مختلفين ، الا من رحم ربك ولذلك خلقهم … ) ففي هذه الاية ايضا معنى اخر ، وسبب اخر لخلق الناس هو ان يختلفوا ؛ وليس للعبادة ؛ (والاختلاف قد يكون ايجابيا اوسلبيا ) وهناك ايات اخرى تشير الى ان هذا الخلق من الانس والجن لم يخلق للعبادة ، او بالاصح لم يخلق للعبادة ابتداء ، او لم يخلق للعبادة الكاملة كالملائكة مثلا .
لقد اخذ معظم المفسرين رحمهم الله ان سبب خلق الانس والجن هو العبادة فقط استنادا الى الاية الاولى ( وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون ) وقالوا : معنى يعبدون اي يوحدون ويطيعون .. ولكن نقول : لابد من جمع الايات كلها معا ، وهذا ممكن ، فلا يسوغ لنا ان نأخذ اية واحدة ونترك الايات الاخرى ، او نؤولها فقط.
– شرح وبيان
نقول اولا : مانوع اللام في قوله تعالى ( الا ليعبدون ) هل هي لام التعليل بمعنى ( كي ) اي كي يعبدون ، او بمعنى ( لأن ) اي لأن يعبدون ، او هي لام الطلب والامر ؟ ان غالب المفسرين والعلماء قالوا انها لام التعليل ، وعلى هذا يكون المعنى : ان الله تعالى خلق الخلق للعبادة فقط ؛ وأكد ذلك ايضا بدليل اخر وهو اداة الحصر ( الا ) اي سبب الخلق هو للعبادة حصرا لا غير ، ونقول : لو كانت اللام للتعليل فالمعنى : ان الله خلق الانس والجن للعبادة ؛ وخصهم للعبادة في اصل خلقتهم وفطرتهم ! ولكننا نرى ان الجن والانس ليسوا هكذا فأكثرهم لايعبدون ؛ واكثرهم كفار غير مؤمنين ! فكيف سيكون معنى الاية ؟ وهي لم تتحقق حسب مراد الله تعالى في قوله ( الا ليعبدون ) ونحن نرى اكثر الناس لايعبدون ، اذن فالمعنى بهذا التفسير لا يسوغ ؛ خاصة اننا نعلم ان الله تعالى خلق كل شئ فقدره تقديرا ، وانما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون ، فكلمة يعبدون في الاية ضمن ارادة الله تعالى الشرعية لا الكونية فارادة الله الشرعية قد تتحقق وقد لا تتحقق فالله سبحانه يريد من كل الناس ان يؤمنوا ؛ فهل كل الناس امنوا ؟ كلا ! فتكون اللام هنا لام الطلب والأمر ؛ وهذا - والله اعلم - هو اقرب لمعنى الاية ؛ وكذلك بسب ما وقع من الناس من عدم العبادة ؛ فتكون اللام هي لام الطلب والامر ، فالله تعالى خلق الجن والانس وطلب منهم وأمرهم ان يعبدوه ؛ فمنهم من اطاع ومنهم من عصى ، فالموضوع امر ونهي (بالاختيار) كالحلال والحرام ، مثل قوله تعالى ( وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة ) فهل كل الخلق اقاموا الصلاة واتوا الزكاة ! كلا . اذن فيكون معنى الاية ( وماخلقت الجن والانس الا ليعبدون ) من هذا الباب .
ويكون سبب خلق الانسان ليس شيئا واحدا فقط ؛ بل عدة اشياء فهو خليفة في الأرض وللاختلاف ، وايضا للعبادة (اختياريا ) وليس الزاما من الله تعالى ، وليس المقصود من (اختياريا ) انه حر ، كلا ! بل انه مأمور بالعبادة والطاعة لله ، وهو يختار ما يشاء ؛ فان امن فله الجنة ، وان كفر فله النار ، قال تعالى : ( وهديناه النجدين)
فانه لو كان الزاما من الله تعالى لوجب ان يكون كل الخلق عابدون طائعون .
- اول ما خلق الله ادم جعله خليفة في الأرض ؛ وجبله وذريته على الاختلاف ثم عبدوه على ذلك ، اي على مافيهم من الاختلاف.
- طبيعة خلق الانسان التي خلقه الله عليها انه ضعيف وجزوع وهلوع ولايتمالك ويحب الشهوات وينسى .. وووو …. فتلك صفات لا تؤهله لعبادة الله حق العبادة ؛ مثل الملائكة .
- بالمعنى العام لمسمى العباد ؛ فكل الخلق عباد لله مؤمنهم وكافرهم ، فموسى عليه السلام عبد مؤمن ، وفرعون عبد كافر ، فكل الخلق عباده ، فأرسل اليهم الرسل لكي يدعوهم الى الايمان والعبادة ؛ فمن أمن فهو عبد مؤمن ، ومن كفر فهو عبد كافر ؛ فحتى مع كفره ايضا يبقى عبد ذليل لله .
- ليس هناك عبد مؤهل ليدخل الجنة بعبادته وعمله فقط ( ولو كان نبيا ) الا برحمة الله ، فقد قال عليه الصلاة والسلام ( .. فانه لن يدخل الجنة احدا عمله ، قالوا ولا انت يارسول الله ، قال ولا انا الا ان يتغمدني الله منه برحمة ) فالانسان لم يخلق للعبادة فقط ، وهو غير مؤهل لتلك العبادة الكاملة الا من رحم الله ، ومع ذلك يجب عليه ان يعبد الله كما امره بقدر استطاعته .
- مفهوم العبادة الشامل ، يتضمن الخضوع لله والاستسلام له وليس أداء الواجبات والفرائض فقط .
- ومن الاسباب لخلق الانسان ايضا ، ان تتحقق في المؤمنين اسماء الله الحسنى ومقتضياتها من الرحمة والمغفرة والعفو والحفظ … فمثلا : من أسماء الله تعالى اسم ( الغفور ) فلو كان كل البشر عابدون حق العبادة كالملائكة ؛ فلن يتحقق مقتضى اسم الغفور ، لانه لايوجد احد عاصي او تائب ليغفر الله له ؛ فلكلهم عابدون طائعون !!ولكي تتحقق ايضا اسماؤه وصفاته على الكافرين والظالمين من القوة والبطش والعقاب ..
- لو اراد الله تعالى من الانسان ان يكون محققا للعبادة الكاملة لصرف عنه صفات الضعف والعجز والشهوات ، والشيطان ، ولم يشغله بالاموال والاولاد (كالملائكة ) لان خلقه الفطري مغاير لتحقيق العبادة الكاملة الدائمة ؛ كالملائكة ؛ الذين كانوا وما زالوا غاية في العبادة ؛ لكنهم لايعلمون الحكمة والغيب .
- ومن اسباب خلق الانسان - ايضا - عمارة الأرض ، ولو ارادنا الله تعالى للعبادة بشكل كامل لهيأنا لذلك بحيث لا نعصي ابدا ، ونكون كالملائكة.
- ولو خلقنا للعبادة فقط كغاية لنا ؛ لما ارسل الرسل وانزل الكتب ، ولما جاءت رحمات الله والعفو ومضاعفة الاجر
واخيرا : الخلاصة
اصبح لدينا عدة أسباب وحكم لخلق الانسان : العبادة / خليفة في الارض / عمارة الارض / الاختلاف / تحقيق مقتضيات اسماء الله وصفاته ؛ وهناك حكم اخرى لا نعلمها ..
وان الله تعالى خلقنا وأراد منا العبادة وأمرنا بها ؛ ( وواجب علينا ان نقوم بهذا ) ولكنه لم يخلقنا في اصل تكويننا الجسدي والروحي كالملائكة للعبادة الكاملة ؛ فكانت عبادتنا حسب استطاعتنا ، وان الدنيا هي دار اختباروابتلاء وفتة ، واننا خلال عبادتنا له سبحانه نعمر الأرض للمعيشة بما يعيننا على تلك العبادة ، وكذلك فاننا خلال هذه الحياة نختلف فيما بيننا ونختلف باستمرار ، وان هذه الارض والحياة الدنيا هي( وعاء ممارسة العبادة ) اي ان الحياة الدنيا هي مكان العبادة ووعائها وموضعها التي تتحقق فيه ، فالمكان الذي نؤدي فيه عبادة الله تعالى هو الارض ، فكان لابد من عمارتها واصلاحها والسعي فيها والكسب والعمل والحركة ، فهناك وقت كبير مصروف لعمارة الارض ؛ وهو واجب علينا ايضا .
واعيد لملمة المعنى بعبارة اخرى وفهم متواضع ؛ يتضمن ربط كل الايات الكريمة مع بعضها ، فأقول : من حقق الخلافة الصحيحة في الارض فاصلح ولم يفسد ولم يسفك الدماء … وامن وعبد الله كما امره بقدر استطاعته وطاقته ، وحسب صفاته التي خلقه الله بها ؛ ثم عمر الارض وسعى فيها ، وتمتع بملذاتها ، كالزواج و الطعام والشراب والزينة حسب ماشرعه الله له … وعمل كل ماسبق طاعة لله وتنفيذا لاوامره واخلاصا له فسيكون قد حقق العبادة ، وحقق ايضا ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون )
جزاكم الله خيرا على الصبر والتحمل فالموضوع قد تناثرت عناصره ؛ وكان لابد من الاطناب