أضحى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أزمة مستمرة يمس البُعد المحلي الفلسطيني أدى نتائجه إلى السيطرة الفعلية على القدس بشطريها الغربي والشرقي والسيطرة على الضفة الغربية من خلال استمرار الاستيطان وآخرها تشكيل المجلس التخطيطي بقيادة الأمن والوزارة الداخلية الإسرائيلية لمناطق الضفة الغربية والعمل على تغيير البعد القانوني والديمغرافي لمناطق الضفة الغربية وبالتحديد المناطق المصنفة سي وبي ضمن سياق إجراءات إسرائيلية أحادية الجانب لتكريس الاحتلال متذرعاً باتفاق أوسلو وأن تلك المناطق تحت سلطته بحكم الاتفاق كمناطق نزاع وليست محتلة.
تراودت الأخبار والتحليلات الواسعة حول زوال "إسرائيل" وان اقتراب العقد الثمانين هو بداية نهاية إسرائيل وهو الأمر الذي يُثر تساؤلات الكثير من المحللين، هل فعلاً ستزول "إسرائيل" أم إنها نظرية لتجييش العطف الدولي وبداية تغيير نظامها مع تغيير ملامح الأنظمة العربية وتغير النظام الدولي إلى متعدد الأقطاب وانتهاء الدور الوظيفي القديم لها؟
بداية، تتعين الإشارة إلى أن أية محاولات للتنبؤ لا بد الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل تُمثل منطلقات أساسية للتحليل وأن هذا السؤال بحاجة لإجابة توصلنا لنتيجة هل ستزول "إسرائيل" بوضعها الحالي أم ستبقى بنظام آخر، والمنطلقات على النحو التالي:
أولا: أن طبيعة الأنظمة العربية قبل ثورات الربيع العربي كانت تعتبر "إسرائيل" العدو الرسمي في المنطقة ولكن بعد ظهور تيارات الإسلام السياسي الممولة غربياً وصهيونياً لتفتيت الشرق الأوسط بحجة ترسيخ الديمقراطية باتت الأنظمة العربية هشة وضعيفة لمقاومة أي عدو، فبات العدو الإسرائيلي الذي انزرع في منطقة الشرق الأوسط كوكيلاً أمريكياً وغربياً أصبح الصديق وبدأت الدول العربية تتسارع نحو ترسيخ العلاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ضمن علاقات التطبيع سواء سراً أو علناً.
فتغير ملامح النظام الإسرائيلي الذي أساسه مشروعاً استعمارياً ومازال ولكن بنظرة أخرى تغيرت أهدافه ورؤيته الإستراتيجية ووظيفته الجديدة بما يتلاءم مع ضعف الأنظمة العربية بعد ثورات الربيع العربي، بدأ يتغير وجود المشروع الصهيوني من مشروع استيطاني إحلالي استعماري إلى مشروع اندماجي في منطقة الشرق الأوسط ضمن سياق التغير الوظيفي لها لأنه إذا بقيت "إسرائيل" ضمن سياق الوظيفة القديمة التي أوكلت لها من أمريكا والغرب في منطقة الشرق الأوسط فإن الوظيفة القديمة انتهت منذ خمس سنوات وهذا يعني وقف الدعم عن إسرائيل وهو ضمنياً انتهاء إسرائيل، ولكن تغيرت الوظيفة الموكلة لها من عدو ومشروع صهيوني إلى مشروع يندمج كلياً مع العلاقات العربية من خلال مشروع ديني وهو ترسيخ الديانة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين واليهود تحت مسمى "الديانة الإبراهيمية" وهو المشروع الذي يوحد العرب ولكن تحت سيطرة إسرائيل الكبرى وهذا المشروع بحاجة لإعادة تيارات الإسلام السياسي بكافة أشكالها ليتناسب دينياً مع المشروع الديني لأن "إسرائيل" بُنيت على معتقد ديني وهي تريد مشاريع ما يناسبها دينياً لذلك نرى أن منطقة الشرق الأوسط قسمت إلى مناطق سنية وشيعية ويهودية ومسيحية لترسيخ المشروع الإبراهيمي.
ثانياً: يأتي فهم الدور الإسرائيلي في الإقليم بوجه عام وفي الدولة المأزومة حولها اقتصادياً وامنياً وعسكرياً نرى أن "إسرائيل" فرضت نفسها في الشرق الأوسط ميداناً لاستعراض مقومات القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية وأصبح وجودها كحقل تجربة السلاح الحديث بالتحديد في حروبها على قطاع غزة وعلى سوريا.
ثالثاً: فهم أدوار الفواعل الدولية والإقليمية بمعنى هل أمريكيا فعلياً تريد إنهاء الدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة؟ باعتقادي ما زال دورها إحدى أهداف ومهام الوزارة الخارجية الأمريكية في المنطقة، وهل الأدوار الإقليمية تُريد سحب "إسرائيل" فعلياً؟ أيضاً الإجابة لا لأن بقاء الأنظمة العربية مرتبط ببقاء "إسرائيل" وهذا ما ذكره نتينياهو في أكثر من موقف أن وجود إسرائيل في المنطقة هو حماية لهم، وما زال حدود التلاقي بين الفواعل الدولية والإقليمية و"إسرائيل" في الشرق الأوسط قوياً وهو الأمر سيُعزز التفاهمات بينهم فوجود "إسرائيل" مرهوناً بوجود الأطراف الدولية والإقليمية.
رابعاً: إذا رجعنا إلى الصراع الفلسطيني_ الإسرائيلي سنرى أن "إسرائيل" معنية تماماً بترسيخ الحركات الإسلامية في مناطق الضفة الغربية سواء حركة حماس وغيرها وهذا ما شهدناه في أكثر من انتخابات حصلت في الضفة الغربية وكيف تم الاعتقال قُبيل الانتخابات ليس حباً بحماس وأنما لإعادة ترتيب المنطقة بما يتلاءم مع المشروع الإبراهيمي الديني وهذا هدفها الأساسي، والهدف الآخر بما أن العالم الغربي والمجتمع الدولي والأمريكي وضع حركة حماس وغيرها ضمن سياق الحركات الإرهابية و"إسرائيل" تعلم تماماً أن الوعي الجمعي الفلسطيني مع حالة الاستعطاف لاعتقال أي فرد وبالتالي انتخابه سيكون دون تفكير فمن هذا المنطلق تعمل إسرائيل ضمنياً على تشجيع انتخاب حماس لأنها تريد إرسال رسالة للعالم الغربي "انظروا إلى الشعب الفلسطيني ينتخب جماعة إرهابية (حسب معتقدهم) حتى تشير للغرب كيف لي أن أعطي دولة بجانبي وهم إرهابيين؟" من هنا لن يتحقق حلم الدولة الفلسطينية والمشروع الوطني على أراضي الضفة الغربية والقطاع والقدس لان المجتمع الدولي يصدق رواية "إسرائيل" فسيتم إلغاء أي تفكير مستقبلي لإيجاد دولة فلسطينية وبالتحديد في الضفة الغربية لأن "إسرائيل" تعتبر الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من دولة "إسرائيل" وبالتحديد "إسرائيل" الجديدة وليست "إسرائيل" المشروع الصهيوني بل "إسرائيل" الصديق للدول العربية وهذا ما نشهده من ارتفاع وتيرة العلاقات العربية_ الإسرائيلية وقريباً سنشهد تطبيع دولة عربية أصرت على أن لا تطبع إلا بأفق سياسي للفلسطينيين.
من هنا سيبدأ نجاح المشروع الوظيفي الجديد لإسرائيل في الضفة الغربية وهو أتوماتيكياً نجاحه في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وهو ما يشير إلى أن نظرية زوال "إسرائيل" في العقد الثمانين غير صحيحة قد تموت "إسرائيل" بطبيعة وجودها الوظيفي القديم وليس الوظيفة الحديثة والمدعومة أيضا أمريكيا وأوروبياً.
قد يدور للبعض ماذا سيحصل للسلطة الفلسطينية للأسف السلطة هي الطرف الأضعف في كل المعادلات وفي وقتها الحالي وصلت لأخطر مراحلها ووجودها، فليس بيدها حيلة سوى الانتظار ما سيفعله الأمريكي، ولكن أمريكا ضمن سياق خطتها الموضوعة في الخارجية الأمريكية وبالذات الملف الفلسطيني لن تعطي أي أمل لأفق سياسي للقضية الفلسطينية بل العكس مهما كانت التنديدات من قبل السلطة بوقف إجراءات سحب الاعتراف بإسرائيل لن يُعريها الاهتمام لأنه فات الأوان حتى لو تم الاتصال مع القيادة الفلسطينية مع وزير الخارجية الأمريكية إلا أن هذا الاتصال لكسب الوقت أيضا لاستكمال المشروع الحالي الديني الإبراهيمي والذي بحاجة لحركات إسلامية يتوافق مع المشروع وليس مشاريع علمانية أو اشتراكية أو قومية لان الشعوب العربية هي بحد ذاتها تؤمن بالمعتقدات الدينية، وإعطاء السلطة أي أفق سياسي يعني استكمال المشروع الوطني ويعني أيضاً إيجاد أفق سياسي وهذا يتعارض مع المشاريع الدينية الجديدة.
خلاصة، لا يوجد مقومات على أرض الواقع تُبرهن على زوال إسرائيل وما ينشره المحللين والكتاب الإسرائيليين هو لاستعطاف اليهود من أصقاع العالم وجلبهم نحو فلسطين وترسيخ يهودية ودينية المشروع ودمج الديانات في دين واحد استناداً حول نظريات الأمن والسلام والتعاون في كوكب الأرض وفرض معايير (ديمقراطية) خاصة تمثل إساءة للديمقراطية الحقيقية.
كما ان الحالة الفلسطينية إذا بقيت في سباتها الحالي فإن إسرائيل ستتمادى أكثر وأكثر في الضفة الغربية لأنه الرادع غير موجود فعلياً سوى الشعارات والتنديدات والوحدة الوطنية غير موجودة في ناموس المصلحة العامة فالمستفيدين من الانقسام أكثر ولا يريدون دولة لاستمرار مصالحهم الشخصية ولكن نتمنى ان يدق ناقوس الضمير لديهم لما آلت إليه القضية الفلسطينية وترسيخ معالم ديمقراطية حقيقية مهما كانت نتائجها فأربع سنوات للتجديد ليست بفترة طويلة والشعب يختار ويجرب ومن ثم يختار ويجرب إلى حين يختار الأفضل أسوة بالعالم، خذوا لبنان مثالاً كل أربع سنوات تحدث انتخابات رغم الصراعات الطائفية والاثنية والعرقية إلا أن الشعب يختار ويتحمل اختياره إلى حين استكمال خياراً صحيحاً يمثل الإجماع الشعبي.
نظرية إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات أصبحت الآن غير صالحة ضمن المتغيرات الحالية ولن يرضى العالم العربي والغربي بذلك وهو الأمر الذي عرفته إسرائيل وأميركا فتغيرت وظيفتها لدولة تحقق الديانة الإبراهيمية الجامعة للجميع والتي تتماشى مع النظام المتعدد الأقطاب.