في شهر مايو 1989م كانت أجهزة المخابرات الإسرائيليـــــــة في قطاع غزة توجه ضربة شاملـــــة (لحركة المقاومة الإسلاميـــة - حماس) اثر قيامها باختطاف جنديين من قلــب إسرائيل، وطالت هـــــذه الهجمة قيادات الحركـــــــة وأجهزتهــــــا المختلفــــــــة.
وضيفنا اليوم أحد أولئك الأبرار الذين طالهم الاعتقال بتهمة ترؤس خلية من المجاهدين الفلسطينيين في منطقة (خانيونس)، وقد حُكم على (أبو معاذ) حينها بالسجن عامين وغرامة مالية قدرها (7000 شيكل)، وقد قضاها في سراديب التحقيق في سجن غزة المركزي، وفي معتقل النقب الصحراوي بين آيات الله عز وجل حافظاً وتالياً... وكانت اللحظات القليلة التي يخلو فيها أبو معاذ بنفسه تذهب به الذاكرة إلى الأيام الخوالي من حياته الحافلة، حيث الطفولة وبراءتها، فقد حاز بذلك إضافة إلى جماله الرائق محبة والديه خاصة أنه قدم إلى الدنيا بعد وفاة شقيقه (تيسير) الذي يكبره مباشرة مما دفع والدته إلى ضمه دوماً إلى أحضانها تحدثه قصص وبطولات الفرسان وأحاديث بلدته ومسقط رأس والده ( ياسور) والحياة الجميلة فيها، وقصة الهجرة الكبيرة وأماني العودة الملازمة للعائلة المتواضعة، وكل أبناء فلسطين.
وتذكر له بشيءٍ من السعادة يوم ولادته ( السابع والعشرين من شهر سبتمبر من عام 1964م)، حيث كان قطاع غزة تحت الحكم المصري... وإن قدومه إلى الدنيا فتح قلبها مجدداً إلى الدنيا رغم أن الله رزقها قبله بذرية كثيرة...
وفي (تلال خانيونس)، حيث تواصل البراءة واللعب مع رفقاء الطفولة، وصيد العصافير، والرحلات الدائمة إلى شاطئ بحر خانيونس حيث يمكث ساعات بين مياه البحر وأمواجه ورماله دون كلل أو ملل... وأيام الدراسة، تحت سقف مدارس خانيونس للاجئين، وما بها من متعة وبراءة... ومن تفوق وذكاء، (حيث كان ياسر من المتفوقين بين أقرانه)، والتزم صغيراً في (مسجد الشافعي) حيث شعر ومنذ نعومة أظفاره بمعنى الولاء وحقيقة الانتماء ونهل من نبع الإسلام الصافي ما شاء الله، وكان أحب أيامه يوم ينطلق مع إخوانه إلى الخلاء يلعبون ويتسامرون. وفي هذا الموقع تعلم الشدة والبأس على كل ما يخالف منهج الله تعالى، وباشر في بناء جسده العملاق حيث مارس بشكل متواصل ألعاب القوى وفن الكراتيه، وكان من الأوائل الذين حصلوا على الحزام الأسود، وكانت نعمة الله عليه عظيمة بجسدٍ قوي على البلاء صابراً... وبالتأكيد كان التزاوج بين الإيمان النقي والجسد القوي مصدر إرهاب متواصل لأعداء الله... وقد ابتلاه الله بمرض (الغضروف) أثر على عطائه الرياضي، وفي أثناء المطاردة أصيب بمرض (الحمى المالطية).
ورحل (أبو معاذ) بفكره الشارد وهو متكئ على فرشة في خيمة المجاهدين إلى الأيام الخوالي التي انطلق فيها ليرى دائرةً أوسع من (خانيونس)، حيث اتجه للدراسة في (معهد التدريب المهني) في غـزة، ومن هناك عاد ليصبح ياسر كهربائي السيارات... إضافة إلى اتقانه لأعمال الطوبار والبناء التي كانت تتناسب مع بنيته الجسدية...
في هذه المرحلة كانت أعين (جماعــــة الإخوان المسلمين) ترقـب (ياسر) ينمو ويصفو ذهنه وفـق الإسلام ومنهجه، فما كان إلا ضمـــــه لركـب الجماعة ليمنح بيعةً عاليةً لله تعالى، ثم تعود به الذاكرة حيث (الجامعة الإسلاميـــــــة) في غزة وأيام العمل الجميلة فيها، حيث الحراسة الدائمة لهذا الصرح من أي عبــــــث كانت إحدى مهام ياسـر الذي يملك كل المؤهلات البدنيــــــة والنفسية لهذا العمل...
وبدأ يفكر الشاب الناضج في الاستقـرار الأسري بعد اكتمال شخصيته والاعتماد المطلق على نفسـه، تزوج (ياسر) ورزقـه الله (بمعاذ) قـرة عين له ولزوجه...
وكان أحب الأيام إليه ذاك اليـــــوم الذي تقدم فيه المجاهد (يحيى السنوار) مؤسس منظمـة الجهاد والدعوة (مجد) (جهاز الأمن) التابع لحركة حماس كي يشكل خلية جهادية في مدينة (خانيونس) تؤدي واجبها في مواجهة الخارجين عن إطار الدين والوطن... وتحركت الخلية قبل ومع بداية الانتفاضة ضد أهـداف تشكل خطــــراً على مجتمعنا وقضيتنا، حيث شكلت هذه الأهداف مراكز لإسقاط أبناء شعبنا في براثن المخابرات.
انتبه (أبو معاذ) الراقـد في خيمته على أثـر سقوط مسبحته من يده، هذه المسبحة الغالية التي صنعها بيده من نوى حبات زيتون بلادنا كي يبقى من خلالها على اتصال دائم مع الله تعالى في هذه الخلوة الدائمة التي أراد منها العـدو كيداً (لياسر) وإخوانه، فإذا هي نعمة عظيمة يشعر فيها بمدى قربه من الله تعالى.
وانتبه إلى المصحف الموجود بجواره والذي أحضره كي يواصل حفظ القرآن... وتذكر يوم تقدم لمسابقـــــة حفظ (الزهراوين) (البقرة وآل عمران) وتفوق في ذلك... وها هو يكمل المسير ليخرج من هذه الخلوة المباركة مع الله تعالى حافظاً عــن ظهر قلب لدستور الأمة (كتاب الله الكريم). ولمّا كان (ياسر) بين أحضان إخوانه رفـقــاء المحنة والصبر يودعهم في اليوم العشرين من شهر مايو 1991م، بعد قضاء محكوميته كاملة... كأنه في بريق أعينهم يلمح مضاء العزيمة فـو ق أكتافهم شارة النصر، وفي حنايا قلوبهم التي لامست قلبه دفء العطاء والنصيحة، فخرج (ياسر) وهو يعرف الطريق جيداً وقـد ثبّت به خطاه بشكل كبير وترسخت لديه القناعات (أن الجهاد هو السبيل) وبدا بريق الإصرار والمضاء أكثر لمعاناً في عيني ياسر المقدام كي يمضي في هذا الطريق الشائك... والتطور النوعي في شخصية (أبي معاذ) بعد خوض هذه المدرسة المتكاملة وحفظ كتاب الله تعالى ونيته الصادقة على مواصلة الطريق كان كفيلاً بأن يصبح أحد الرقباء لحركة الإخوان المسلمين في مدينة خانيونس.
ما كاد (أبو معاذ) يحط الرحال بعد هذا الســـفر الطويل فى بحر الغربة عن الأهل والزوج والولد، وذلك استجابة للهيــــب المستعــــــر في قـلبــه الذي يدفعه للعمل والعطاء حتى بادر إلى تشكيــــل خليــــة عسكرية من خلايا كتائب الشهيد عــــز الديــــن القسام في منطقة خانيونـــــس وقـف على رأسها...
ولمّا يبدأ العمل العسكري، كما كان قـد خطط لذلك حتى اعتقلت مجموعة قسامية في شهر ديسمبر 1991م وأثر ذلك في السابع من يناير من العام التالي داهمت قوات عسكرية معززة منزل ياسر فما كان من المجاهد إلا اتخاذ قـراره الحاسم وإعـلان التحدي الصعب بقوله الصارم " لن أسلم نفسي لليهود وسأموت ألف مرة قبل أن ينالوا مني " ليصبح بعدها (أبو معاذ) مطارداً لقوات الاحتلال والمستوطنين في كافة الخنادق الأمامية للمواجهة وليستعر لهيب المعركة بشكل أكثر بروزاً في كافة أرجاء (القطاع) الصامد، وليكون (أبو معاذ) من أولئك النفر الأوائل القلائل الذين بهم ارتفعت راية الجهاد وأصبح اسم (القسام) رمزاً أصيلاً لكل جهاد صادق وتضحية كاملـة...
كان رجل الساعة يفهم دوره جيداً وينفذ المطلوب منه بشكل كامل، فانطلق منذ اللحظة الأولى للمطاردة في مدينة غزة وأحيائها (والتي لم يغادرها مطلقاً حتى استشهاده) يرفع بنيان القسام ويثبت أركانه في الأرض ليصبح كالشم الرواس، حيث تولى (أبو معاذ) قيـادة (كتائب الشهيد عز الدين القسام) في قطاع غزة... وهذه المهمة الثقيلة لم يكن (ياسر) ليضنّ بها أو يتقاعس في أدائها رغم المشقة البالغة التعقيـد... حتى لم يتوقـف المطارد البطل عن العمل من أجل توفير الإمكانات اللازمة للمجاهدين، حيث قام بشراء السلاح وإعداد مواقـع الاختفاء، وبدأ يوسع قاعدة العمل العسكري، فانضم إلى القافـلــة مجاهدون جدد وغـدت الخلايا القسامية في شتى المواقع... وبدأت موجة من الهجمات التي شــــارك بفاعلية التخطيط لها أمير الكتائب (أبو معاذ)... ومنها الهجوم على مركز الشرطة في غزة، وعملية (مصنع كارلو) قرب ناحل العوز حيث قتل يهوديان، وعملية قتل المستوطن (كوهين) قرب بيت لاهيا.
وكان الإصرار والتفاني والإخلاص معلماً بارزاً في شخصية القائد (أبي معاذ) حيث تراه في كافة المواقع رجلاً إيمانياً معطاءً لا يبخل على دينه وحركته بالجهد والوقت والمال والدم القاني الذي روى التراب الطهور الذي عشقه (ياسر)، كان أكبر شاهداً على هذه الحقيقة الناصعة وفي كل هذه الأوقات الصعبة والتحدي العنيف كان دوماً يردد " راية الجهاد ارتفعت ولن تخفض بإذن الله تعالى وسنظل نضرب اليهود في كل مكان ما دام فينا عرق ينبض " ؟
ولم يكن (ياسر) التـواق يضع نصب عينيه سوى نهاية واحدة (الشهادة، الجنان ) فكان يرفض الخروج من الأرض المقدسة كما يرفض تسليم نفسه لأيدي السجان القاهـر، فكان يسعى للشهادة بكل قـوة وعنفوان وينتظرها كأمنية غالية طالما رسخت في عقلـه الباطن أن الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، لذلك لم يدّخـر أبو معاذ جهداً لتحقيق هذه الأمنية، لذلك كان دعاؤه الدائم " اللهم ارزقنا الشهادة مقبلين غير مدبرين ".
كان (أبو معاذ) يريد الشهادة ويسعى لها سعياً وهو محسن، وكان أعداؤه يتربصون به يريدون له الموت وعلى ما أراد (أبو معاذ) تحقق قدر الله تعالى حين تقدمت قوات عسكرية بأعـداد هائلة في مساء الثلاثاء 14/7/1992م وحاصرت المنطقة الجنوبية من (حي الزيتون) حيث يتواجد (الرقيب أبو معاذ) واستمرت حملة تفتيش واسعة النطاق حتى قرب ظهيرة اليوم التالي 15/7/1992م حتى خرج (أبو معاذ) من موقعه وهو يحمل مسدسه الشخصي أطلق منه رصاصات على قوات الاحتلال وحاول القـفــز بين المنازل حيث كسرت (الزاوية) التي كان يستند عليها فأطلق الجنود أكثر من ثلاثمائة رصاصة على جسده الطاهر ليرتقي الفدائي إلى جنة عرضها السموات والأرض ويقع على الأرض مدرجاً بدمائه الزكية لتبقى أكبر برهان على صدق (أبي معاذ) فقد تم الاصطفاء من الباري عز وجل لعبده الصادق... ونجح أبو معاذ وتحقق خياره الوحيد... الشهادة...وتفوح رائحة الدم... رائحة المسك تعبق المكان الطاهر الذي احتضن الجسد العملاق والقلب التقي الحافظ لكتاب الله تعالى واللسان الرطب دائماً بذكره عـز وجل والذي لا يخاف في الله لومة لائم...
وتقـدم الجنود المدججون بأسلحتهم حذرين نحو الجسد الطاهر المسجى ليتم نقله وسط إجراءاتهم في البحث داخل الجسد حول أي أثر لمعنى المقاومة والصمود، وتعلن الإذاعة الإسرائيلية نبـأ استشهاد (ياسر النمروطي) أخطر المطاردين في قطاع غـزة (كما وصفته الإذاعة) وأعلنت حركة المقاومة الإسلامية - حماس - عن يوم 15/7/1992م اضراباً شاملاً حداداً على روح الشهيد (الرقيب/ ياسر النمروطي) قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام في قطاع غزة، وكان الخبر صاعقـاً لآل الشهيـد رغم توقعهم ذلك منذ الإعلان الأول للتحدي الذي قـرره ياسر وبدأ فيه مرحلة المطاردة كمرحلة جديد للمواجهة حتى الرمق الأخير مع مغتصبي الأرض ومزوري التاريخ... ولكن الصبر كان رائدهم وشعارهم فحمدوا الله على اختيار ولدهم شهيداً وهم يعلمون أن موقعه عند الله عظيماً، وتوج رأسهم وامتلأت قلوبهم بالفرحة الغامرة لمّا زاد موقـع (ياسر) في قلوب أبناء شعبه، فقــد غمر الفخر منزل (أحمد النمروطي)، حيث أمّ آلاف الناس حفل عزاء الشهيد، فكانوا لا يذكرون إلا (ياسر) وإيمانه العميق وجهاده المتواصل وعطاءه الذي لم ينضب وبطولاته الفـــذة وفدائيته المقدامة.
وما كان لكتائب الرحمن من جند الحماس والقسام أن تنسى أحد أبرز خريجي مدرسة الجهاد والاستشهاد حيث حضرت في اليوم الثالث للعزاء حضرت قوافل من المسلمين أدت استعراضاً رائعاً تحية لابن الإسلام العظيم، كما حضرت خليـة قسامية مسلحة أطلقت الرصاص في الهواء تحية لقائدهـم القسامي وهم يرفعـون ولـده (معـاذ) فـوق أكتافهم وفي حفل تأبين الشهيد الرقيب المهيب أثنى الجمع على (أبي معاذ) القائد الجندي، وقال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ( نودع اليوم بطلاً لم أشهد له مثيلاً في هذا الزمان )، وعلق على استشهاد القائد الرقيب، أحد مسؤولي الجبهة الشعبية بقوله من أراد الشهادة فليكن مثل (الشهيد ياسر النمروطي) بغياب (ياسر) فقدت الحركة الإسلامية واحداً من خيرة وأعز أبنائها، ولمّا كان نار الشعلة التي أضاءت للحيارى التائهين، فقد خيم الحزن على الجميع لفقدان هذا السراج الذي أضاء لمن حوله وأصبح أبو معاذ أسطورة في أذهان الناس ، وغدا قدوة للفتيان الصغار الذين يرددون دوماً أنهم سيكونون مثل (أبي معاذ)... ومنهم من سمى نفسه (أبا معاذ)
وسُمى الشارع الذي نشأ فيه الشهيد بشارع الشهيد ياسر النمروطي، وسمى فريق كرة القدم في الحي باسمه، وثأراً للشهيد نفذت (كتائب القسام) عدة هجمات على قوات الاحتلال في كافة المواقع ومنها هجوم على مركز الجيش في جباليا ثالث أيام استشهاد الرقيب، وأطلقت زخـات من الرصاص على معسكر الجيش في خانيونس ثاني أيام استشهاد (ياسر)، كما نفذت كتائب القسام عملية خطف الجندي (ايلون كرفاني) ثاراً للرقيب الشهيد، وخطت حركة المقاومة الإسلامية - حماس - على كل الجدران في قطاع غزة والضفة الغربية نعياً لشهيد الإسلام ابن الإخوان وابن كتائب القسام الشهيد الرقيب (ياسر النمروطي).
واستمر حفل العزاء تسعة أيام متتالية حتى استلم الأهل جثمان الشهيد المسجى في مركز الجيش بعد أن قدّم الجيش الإسرائيلـــي التحية للشهيد الذي تفوح منه رائحة المســــــك يخطب فيهم (هذا سبيلي إن صدقتم محبتي فاحملوا سلاحي )، وفي عتمة الليل وبأعداد قليلة حمل الجسد الطاهر وسط حراسة عسكرية مشددة وارى تراب خانيونس الفداء الجسد النبيل صاحب العطاء الأصيل حيث رقـد أبو معاذ رقـدتـه الطاهرة بعـد أن صال وجال في ميدان الجهاد والاستشهاد وقـرع أبواب الجنة بجماجم اليهود وقدم دمه الطاهر عربوناً صادقاً لمرضاة الله تعالى ومهراً للحور العين وكتب بدمه على كل الجدران هنا بوابة المجد والخلود... هنا الطريق أيها التائهون، وسطر صفحات ناصعة في كتاب التاريخ الجديد لشعب وأمة وقضية ضلت العنوان وزاغت عن الحق والبيان.