يكتب بعض الأدباء قصصا يقولون أنها واقعية نقلا عن أمهاتهم وآبائهم وجداتهم ، وتاكيدا للواقعية في مسلكهم يسوقون المفردات العامية نفسها التي استخدمها الجد او الجدة ، وقد قرأت قصة من هذا النوع مرة لكاتب وسألته عن السر في الابقاء على الكلمات الفصحى كما هي فقال لي :
كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف.
وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي أو جدتي ، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون ....
بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات".
من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأُموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين.
ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس.
وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ.
ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها (السوالم) لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية.اهـ وللأسف لا يزال كثيرون يجزمون اليوم بأن هناك قبيلة يمانية على فطرتها ولا تزال تنطق الفصحى السليمة حتى الآن !!! وإنما يستشهدون بمقالة شيخنا الطنطاوي ، وكنا مرّة في نقاش حضره عدد من كبار جهابذة اللغة العربية ، ودار الحديث عن استعمال الفصحى ورأى بعضهم صعوبة ذلك ، فقلت لهم أن العامية في حوران وأغلب الحجاز وعُمان اليوم تتحدث الفصحى ، بل إن اللهجة الحورانية هي أقرب اللهجات الى القرشية الفصحى السليمة ، فرفض أحدهم هذه النظرية مستشهدا بالطنطاوي رحمه الله ، فقلت : رحمك الله يا شيخنا فقد أتعبتنا بحجم ما أسعدتنا ، ونقلت لهذا الدكتور الجهبذ ما قاله الشيخ الطنطاوي نفسه في مذكراته فقنع ووافق على منحى نظريتنا المدعم بالأدلة الواقعية ...
ومن القصص التي يسوقها كثيرون في وعظهم ، وأحاديثهم الرمضانية ، تلكم القصة التي تقول بأن من ترك شيئا لله عوَّضــه الله خيرا منه ، ومفادها أن لصأ دخل بيتا ليسرق فلم يجد إلا طنجرة فيها( كوسا محشية) وهي أكلة شامية معروفة ، فقضم حبة كوسا ثم أعادها إلى الطنجرة تورّعــاً ، وخرج مسرعا لتسوقه الأقدار إلى المحكمة ويزوجه القاضي من سيدة تكون هي صاحبة البيت الذي سرق منه ( قضـمـةً من حبة الكوسا المحشية ) ويدخل البيت وتأتيه بالطبخة ليأكلها بالحلال ، ويرى حبة الكوسا المقضومــة ، ويحكي للمرأة ماجرى...
هذه القصة سمعتها مرارا ، وكان في النفس منها شيء ، لوجود ثغرات في حناياهــا ، إلا أن الحصانة الممنوحة للقصة بتفاصيلها مٌنِحت لها ، كونها من مرويات الشيخ الثقة أستاذنا الطنطاوي رحمه الله ، وكان قاضيا شرعيا بدمشق وهو منْ زوَّج السيدة أم الكوسا إلى الرجل الذي سرق من بيتها ....وفجأة يطاعنا الشيخ على نفسه بأن هذه القصة لا تمتُّ للواقع بصلة ، فهي من وحي خياله وجموح أفكاره رحمه الله تعالى ، وكأنَّ الاعتراف هذا استغفار من ذنب شعر شيخنا الجليل أنه قد قارفه !
والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف ، وإيحاء لمن ركب هذا المركب أن يراجع نفسه ويتوب ، ويبيَّن للناس الحقيقــة
رحم الله الطنطاوي ما أورعــه ، علَّـمنا حيا ولا يزال يعلمنا ميتا ، فليت كتابنا وأدباؤنا الذين زعموا وظنوا وتكهنوا وتقوّلوا وقوّلوا الناس ما لم يقولوه أبدا ، ليتهم يعودون ويتنصّلون من أقوالهم كي لا تلاحقهم تبعاتهــــا في الدنيا والآخـــرة ، وهي فرصة رمضانية عليهم أن يهتبلوها في الشهر الكريم ، شهر الفضل والإنابة والتوبة ، ندعوهم إلى توبة رمضانية صادقة فيعتذروا عما صدر وممن تقوّلوا عليهم من الأحياء والأموات ، وما أظن فرصــة أجمل ولا أنسب من فرصــة رمضان الفضيل للإنابة والتراجع والاستغفار ، وطوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة استغفاراً كثيراً , وصلى الله على سيدنا محمد وآله والتابعين ، وآخر دعوانــا أن الحمد لله رب العالمين