أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الخطاب السّرديّ وتمثّل الواقع: رواية "غدّار يا زمن" للدّكتورة جويل فضّول أنموذجًا

الأديبة الدكتورة: دورين نصر- لبنان - مقالات

لا يمكن أن نقول شيئًا مفيدًا حول رواية ما، إذا لم نعرف الطّريقة التي صُنعت بها، يقول النّاقد والمنظّر الإنكليزيّ بيرسي لوبوك (Percy Lubbock) في كتابه المشهور "صنعة الرّواية" (The Craft of Novel): "إنّ التّقنيّة هي المظهر الذي يجب دراسته". ويؤكّد أنّه يجب دائمًا أن نقرأ الرّوايات قراءة تأسيسيّة، قائمة على تحليل التّقنيّة بشكل رئيس، وهو ما فعله انطلاقًا من تحليل بعض الرّوايات الكبرى".

تبدأ "غدّار يا زمن" للدّكتورة جويل فضّول بمشهد يبدو في ظاهره عاديًّا: امرأة على متن طائرة، تنظر من النافذة وتحاول أن تحتفظ بهدوئها. لكن هذا الهدوء لا يصمد طويلًا؛ فظهور فيلم Rocky II أمامها يكفي ليفتح بابًا واسعًا نحو الماضي. تقول الرّاوية: «دخل روكي الحلبة ودخلتُ معه حلبة الذّكريات» . ومن هنا تبدأ الحكاية فعليًّا. لم تعد الطّائرة هي المكان، بل الذّاكرة؛ ولم يعد الحاضر هو الزّمن، بل تلك السّنوات الّتي تعود بقوّة وتطلب أن تُروى.

تبدو الرّواية منذ بدايتها محاولة لفهم رجل خسرته الرّاوية باكرًا، ومحاولة لفهم الزّمن نفسه: كيف يمرّ؟ وكيف يعود؟ وكيف يخدع من يثق به؟ فالمأساة الّتي تعيشها العائلة ليست حادثة فرديّة، بل جزء من واقع اجتماعيّ أكبر، واقع يسمح للخطر أن يدخل حياة الناس من دون إنذار. وعبر هذا التّوتّر بين ما حدث وما لا يزال حاضرًا في الذّاكرة، تتشكّل الحاجة إلى قراءة الخطاب السّرديّ نفسه: كيف يعيد الزّمن رسم شخصيّة روكي؟ كيف يتحوّل السّرد إلى وسيلة لمساءلة الواقع أكثر من كونه وسيلة لتسجيله؟

وبهذا المعنى، يكون السّؤال الذي يرافق القارئ ليس عن مصير روكي فحسب، بل عن معنى هذا الزّمن الذي يقود الحكاية، ويعلّقها، ويعيدها، وكأنه هو أيضًا جزء من اللّعبة: هل خان الزّمن أصحابه؟ أو أنّ الواقع هو الّذي جعل الزّمن غدّارًا؟ هل السّرد وحده قادر على كشف ما لا يُقال؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ستتناول الدّراسة بنية الخطاب السّرديّ في الرّواية.

بنية الخطاب السّرديّ

يقوم السّرد في "غدّار يا زمن" على بناءٍ يعتمد الذّاكرة مدخلًا والذّات محورًا، لكنّه لا يكتفي باستعادة الوقائع، بل ينشغل بالطّريقة الّتي تتشكّل بها الحكاية حين تعود إلى الوعي بعد الغياب. فالخطاب هنا ليس قناةً محايدة تنقل ما جرى، بل فضاء تتحرّك فيه أصوات متعدّدة، بعضها ظاهر في كلام الرّاوية المباشر، وبعضها يمرّ عبر ما ترويه عن الآخرين، وبعضها يحضر من خلال الأفعال الّتي بقيت آثارها في الذّاكرة. هذا التّنوّع لا يظهر عبر تعدّد الرّواة، وإنّما من خلال مرونة الصّوت الواحد وقدرته على حمل تجارب مختلفة داخل لغته.

وتظهر أهميّة هذا البناء في أنّ الرّواية لا تبدأ بتقديم العالم الخارجيّ أو رسم الإطار الاجتماعيّ، بل من لحظة تستيقظ فيها صورة الأب بمجرّد مشاهدة مشهد سينمائيّ. هذه اللّحظة تحدّد طبيعة الخطاب السّرديّ كلّه، لأنّ الحكاية لا تتقدّم من الخارج إلى الدّاخل، بل من الدّاخل إلى الخارج؛ من أثر شخصيّ ينفتح شيئًا فشيئًا على حياة عائلة كاملة، ثمّ على حيّ، ثمّ على واقع اجتماعيّ يفرض نفسه مرجعًا.

ومن خلال هذا المسار، يتوزّع الخطاب السّرديّ بين خطّين:

خطّ الذّاكرة الّتي تبحث عن شكل تحمل به ما تبقّى من حياة الرّجل، وخطّ الواقع الذي يطلّ من بين السّطور من خلال تفاصيل صغيرة وملموسة. وبهذا يتكوّن تدريجيًّا أساس القراءة في هذا القسم: فهم الخطاب من خلال الصّوت الّذي يرويها، والزّمن الّذي يعيد ترتيبها، وزاوية النّظر التي تُبنى منها كلّ صورة.

ومن هذا المدخل يبدأ تحليل عناصر الخطاب السّرديّ: كيف يتشكّل الصّوت؟ كيف يتّسع ليحمل أكثر من تجربة؟ كيف يتحوّل إلى مجال تتقاطع فيه العائلة والشّخصيّة والواقع؟ وكيف ينجح السّرد في بناء صورة روكي؟

1. الصّوت

يستند الخطاب السّرديّ في "غدّار يا زمن" إلى صوت واحد في الظّاهر، هو صوت الابنة الّتي تستعيد سيرة والدها. لكنّه لا يعمل كقناة تنقل الحكاية فقط؛ إنّه يتشعّب ويحتوي أكثر من نبرة، وأكثر من توتّر، وأكثر من أثر. وهنا تلتقي الرّواية مع ما قاله باختين: إنّ الخطاب الرّوائيّ الحقيقيّ لا يصدر عن جهة واحدة، حتّى حين يبدو كذلك، لأنّ كلّ كلمة يحملها السّارد تحمل معها صدى كلمات أخرى، وتجربة أشخاص آخرين. وهذا ما نجده في هذه الرّواية بوضوح.

أ. صوت الذّات التي تتذكّر

الصّوت الأول هو صوت الرّاوية. وهو صوت لا يقف بعيدًا عمّا ترويه، بل يحمل جرحًا مفتوحًا. حين تكتب فضّول: «دخل روكي الحلبة ودخلت معه حلبة الذّكريات»، فهي لا تعلّق على الماضي من الخارج، ولا تقدّم معرفة كاملة، بل تدخل معه في الحركة نفسها. جملة كهذه تكشف أنّ "التّذكّر" ليس خيارًا، بل فعل يقع عليها من الخارج، ويدفعها إلى الكتابة.

الصّوت هنا محكوم بالعاطفة والارتباك والحنين، ورغم ذلك يظلّ متماسكًا بحكم أنّ الذّاكرة، رغم ألمها، تملك نقاطًا صلبة تعود إليها الرّاوية لترتيب ما بقي من حياة الرّجل.

ب. صوت العائلة الّذي يمرّ من خلال الرّاوية

مع أنّ الرّواية يرويها شخص واحد، فإنّ صوت الأمّ والإخوة والجيران يظهر داخل الجمل من غير أن ينطقوا مباشرة. حضورهم يأتي من خلال ما تتذكّره الرّاوية من تعابيرهم، وخوفهم، وردود أفعالهم، ومحاولاتهم إدراك ما يحصل.

عندما تذكر أنّ العائلة كانت تركض كلّما رنّ الهاتف بعد اختفاء روكي، فإنّ فِعلَ الرّكض ينقل صوتًا جمعيًّا: خوف الأمّ، ورجاء الإخوة، وارتباك النّهار بأكمله. وبالتّالي، يتحوّل الصّوت الفرديّ (الرّنين) إلى صوت عائليّ، ما يظهر أثر ما قاله باختين عن "الصّوت الجمعيّ داخل الكلمة الواحدة".

ج. صوت روكي في غيابه

لروكي حضور صوتيّ غريب: فهو حاضر من خلال كلمات الآخرين، وردود أفعالهم، وما تركه في ذاكرتهم. لا يتكلّم مباشرة، ولا يقدم رؤيته الخاصّة عن نفسه، لكنّ كلّ تفصيل يرد عنه يفسّر ذلك: طريقة مشيته، اندفاعه، توتّره حين يشعر بخطر قريب، حكاياته الّتي تُروى عنه. كلّ هذا يشكّل نوعًا من صوت غير منطوق.

هذا النّمط من "الصّوت الصّامت" يقترحه باختين حين يتحدّث عن أشكال الحضور الّتي لا تحتاج إلى لغة منطوقة لتعبّر عن موقع الشّخصيّة داخل الخطاب.

د. صوت المؤسّسة

حين تتّصل العائلة بالشّرطة مرارًا بعد اختفاء روكي، تسمع الجملة نفسها: «مرّت أربعٌ وعشرون ساعة؟»

هذه الجملة، القصيرة والمقتضبة، لا تنتمي للعائلة ولا للرّاوية، بل لخطاب آخر: خطاب الدّولة. وهذه النّقطة تحديدًا من صميم تحليل باختين: "الصّوت الرّسمي" يقتحم النّصّ، لا يظهر من خلال تحليلٍ اجتماعيّ، وإنّما من خلال كلمةٍ مقتطعة تُعيد رسم الحدود بين النّاس والمؤسّسة".

ه. الصّوت المكسور الّذي تخلّفه الفاجعة

بعد اختفاء روكي، يتغيّر الصّوت كليًّا. ونلاحظ أنّ الرّاوية تنقل الانتظار ببطء ثقيل، وتعيد تكرار ما جرى في تلك السّاعات الأولى، وكأنّ الصّوت فقد توازنه.

هذا التحوّل ليس أسلوبيًّا فقط، بل صوتيًّا؛ لأنّ اللّغة نفسها تنزاح حين يتغيّر مصير الشّخصيّة الرّئيسيّة.

يفسّر باختين هذا النّوع من التّغيّر قائلًا: الصّوت الرّوائي يتكوّن من التّوتّرات الّتي تمرّ بها الشّخصيّات، لا من خطّة ثابتة يضعها المؤلّف.

هذا التّعدّد يمنح الرّواية عمقًا إنسانيًّا، ويمنح خطابها السّرديّ قوة تُفسّر لماذا بدت الحياة فيها قريبة من الواقع أكثر من أيّ تنظير.

بالتّالي، يتحرّك السّرد في "غدّار يا زمن" من داخل الذّاكرة، بصوتٍ يبدأ من الذّات وينتشر حولها، وزمنٍ يعود إلى الخلف كلّما حاول التّقدّم. العلاقة بين الصّوت والزّمن ليست علاقة فصل بين "من يروي" و"متى يروي"، بل علاقة تداخل. الصّوت هو الّذي يفتح الباب أمام الزّمن، والزّمن هو الّذي يفرض على الصّوت طريقته في الحكي.

يظهر الزّمن في هذه الرّواية من خلال إيقاع الذّاكرة، وليس من خلال تسلسل الأحداث. الصّوت يلتقط مشهدًا ويعيد تنشيطه، ثم ينتقل إلى مشهد آخر من دون أن ينتظر رابطًا زمنيًّا: الزّمن يتبع شدّة الانفعال، والصّوت يتشكّل وفق اللّحظة الّتي يسترجعها. لذلك نرى السّرد يتوزّع وفق خطّين: صوت يروي من موقع الفقد، وزمن يتشظّى ليمسك بما بقي من حياة البطل.

ما يدفعنا الى التّساؤل: أيّ زمنٍ ينهض حين تتكلّم الذّاكرة، وأيّ ذاكرة تتشكّل حين يتحرّك الزّمن خارج ترتيبه المعتاد؟

2. الزّمن

يتبدّى الزّمن في "غدّار يا زمن" مرتبطًا بحركة التّذكّر، متقدّمًا حين يشتدّ السّرد، ومتراجعًا كلّما ارتفعت الحاجة إلى استعادة حياة روكي. هذا النّوع من الزّمن ينسجم مع التّصوّر الّذي يقدّمه بول ريكور (Paul Ricoeur) في كتابه "الزّمن والسّرد"، حيث يتحوّل الماضي إلى عنصر فاعل داخل الحكاية من خلال الاسترجاع، فيأخذ الحدث شكلًا جديدًا داخل الوعي السّرديّ.

أ. الاسترجاع

يرى ريكور أنّ الاسترجاع هو المدخل الّذي تعود عبره التّجربة القديمة إلى السّرد حين تنبعث الحاجة إلى الفهم. في الرّواية يظهر هذا بوضوح منذ المشهد الأوّل داخل الطّائرة: الرّاوية تشاهد Rocky II، فتكتب: «دخل روكي الحلبة ودخلتُ معه حلبة الذكريات». من هذه الجملة يتحرّك الزّمن نحو الوراء، ويبدأ الماضي في الاشتغال داخل النّصّ عبر مسار جديد يتحدّد بقوّة المشهد واستدعائه.

ويظهر الاسترجاع في لحظات أخرى، منها حادثة العامل الثّمل الّتي تقول عنها الرّاوية: «انفلتت من روكي صرخة عالية قبل أن يخرج راكضًا إلى الشّارع». هذه العودة تختزن صورة حادّة عن الرّجل كما عرفته أسرته. ويظهر الأمر نفسه في مشهد محاولة سرقة سيّارة الجار، حين تكتب الرّاوية: «فتح الباب بقوّة، خرج مسرعًا، وأطلق النّار في الهواء لإبعادهم». الاسترجاع هنا يحرّك الزّمن بانفعال، فيقدّم الماضي على أنّه جزء من الحاضر.

ب. زمن التّجربة

يؤكّد ريكور أنّ الزمن السّردي يتكوّن حين تتحوّل التّجربة إلى حكاية. هذا يتّضح حين تصل الرّواية إلى مرحلة اختفاء روكي. السّاعات الّتي تنتظر فيها العائلة خبرًا عنه تتّخذ إيقاعًا مختلفًا، فيغدو الزّمن ثقيل الحركة. وتصف الرّاوية تلك السّاعات بقولها: «كلّ دقيقة بدت أطول من سابقتها، وكلّ صوت على الهاتف أربك البيت بأكمله». هنا يتحرّك الزّمن وفق ما تعيشه الشّخصيّات من قلق وتوجّس.

ج. إعادة تشكيل الماضي

كلّ عودة إلى مشهد قديم تعيد صوغ الحدث من جديد. ريكور يعرّف هذه الحالة بـ«إعادة التّشكيل»، حيث يَدخل الماضي السّرد ليُعاد ترتيبه داخل الوعي. في الرّواية تتشكّل صورة روكي بهذا الأسلوب؛ فالمشاهد المتباعدة: خطواته في البيت، وقفته في الحيّ، إحساسه بالخطر، نظرته حين باع شقّته، تجتمع عند الاسترجاع لتقدّم حضورًا مركّزًا.

د. زمن يعيد نفسه بطرق مختلفة

الحكاية تتحرّك بمسار غير مستقيم. الزّمن يعود إلى لحظة ثم ينتقل إلى أخرى، ويعود إلى الأولى مرّة ثانية. كلّ استرجاع يضيف عنصرًا جديدًا إلى صورة روكي، ويمنح السّرد انطلاقته. هذه الحركة تقترب من رؤية ريكور الّتي ترى أنّ السّرد يبتكر زمنه الخاصّ من خلال حاجته إلى ترتيب الأحداث، فيعود إلى الماضي حين يشتدّ السّؤال، ويتقدّم حين يقترب الاحتمال الدّلاليّ.

وتتبيّن هذه الحركة في قول الراوية: «لم أفهم تلك النّظرة يومها، لكنّني أعود إليها كلّما حاولت أن أستعيد بدايات النّهاية». الجملة نفسها تعمل كخطّ فاصل بين زمنين: زمن عاشته من دون وعي كامل، وزمن تعود إليه الآن لتفهمه.

من خلال هذا البناء يتشكّل الزّمن في الرّواية باعتباره قوّة فاعلة داخل الخطاب السّرديّ، يتحرّك وفق نبض الذّاكرة، ويعود إلى النّقاط المؤثّرة، ويجمع المشاهد المتناثرة داخل تجربة واحدة تُكتب في اللّحظة الحاضرة. الزّمن لا يظهر على أنّه مجرّد سياق للأحداث، بل مسار يعيد تشكيل حياة روكي في الوعي، ويمنح كلّ استرجاع معنى جديدًا داخل الحكاية.

وعليه، يتداخل الصّوت والزّمن في "غدّار يا زمن" حتّى يصل السّرد إلى لحظة اختفاء روكي، فتلتقي الخيوط السّابقة في حركة واحدة شديدة التّوتّر. الصّوت الّذي كان يستعيد التّفاصيل بهدوء يتغيّر إيقاعه كلّما اقترب من تلك السّاعات الأخيرة، والزّمن الّذي كان يتنقّل بين مشاهد متباعدة يتجمّع داخل لحظة واحدة تفرض حضورها على الوعي. في هذا الالتقاء تتّضح طبيعة الخطاب السّرديّ: صوت يحاول فهم الفقد، وزمن يعود ليلقي الضّوء على ما حدث قبل النّهاية. ومن هنا تتّضح أهمّيّة المشهد الأخير، لأنّه يكشف حقيقة العالم الّذي تحرّكت فيه حياة روكي، ويحوّل الحكاية إلى قراءة صريحة لواقع لا يترك لأحد فرصة النّجاة.

والواقع، إنّ بنية الخطاب السّرديّ في نظامها التّلفّظيّ المتعدّد وزمنها القائم على الاسترجاع لا تُقرأ بمعزل عن الغاية الّتي تكشفها في النّهاية. فكلّ عنصر من عناصر البناء السّردي يعمل على أنّه تمهيد يسمح بتشكيل الرّؤية الّتي تتجلّى في المشهد الأخير. الصّوت الّذي حمل التّجربة من الدّاخل مهّد لطريقة إدراك العالم، والزّمن الّذي عاد مرارًا إلى اللّحظات الحاسمة أعاد ترتيب هذه التّجربة على نحو يجعل النّهاية نتيجة طبيعيّة لمسار طويل.

خلاصة القول، تخرج "غدّار يا زمن" من قراءتها بوصفها بنية سرديّة مشغولة بذكاء، تقدّم أنموذجًا لنصّ يُنتِج دلالته من طريقة تشكّله، لا من الأحداث وحدها. البناء يتشكّل على إيقاع صوتٍ يبحث عن معنى، وزمنٍ يعود كلّما احتاج السّرد إلى إعادة ترتيب ما انكسر. ومع هذا التّنامي، تتّجه الرّواية نحو شكلٍ جديد من الواقعيّة؛ واقعيّة تنتقل من رصد الوقائع إلى كشف بنية العيش في مجتمع خرج من الحرب من دون أن يدخل السِّلم. الفراغات بين المشاهد تنتج توتّرًا يساوي حضور العنف في الحياة اليوميّة، والانتقالات المتكرّرة نحو الماضي تمنح كلّ تفصيل موقعًا متحوّلًا داخل السّرد، فتظهر تجربة روكي كخطّ يتكوّن من الإشارات الصّغيرة كما من المصائر الكبيرة. وفي النّهاية، تتجلّى الرّؤية من داخل هذا النّسق: العالم لا يُفهم من خلال الحادثة، بل من خلال الطّريقة الّتي بُنيت بها الرّواية، والطّريقة الّتي أعادت بها الذّاكرة تنظيم التّجربة. وفي الختام أتساءل: كم من أصوات خلّفتها الحربُ سترتفع مع جويل فضّول صارخة: "غدّار يا زَمن"؟

تعليقات