الأديبة الدكتورة: دورين نصر- لبنان - مقالات
تبدأ "غدّار يا زمن" للدّكتورة جويل فضّول بمشهد يبدو في ظاهره عاديًّا: امرأة على متن طائرة، تنظر من النافذة وتحاول أن تحتفظ بهدوئها. لكن هذا الهدوء لا يصمد طويلًا؛ فظهور فيلم Rocky II أمامها يكفي ليفتح بابًا واسعًا نحو الماضي. تقول الرّاوية: «دخل روكي الحلبة ودخلتُ معه حلبة الذّكريات» . ومن هنا تبدأ الحكاية فعليًّا. لم تعد الطّائرة هي المكان، بل الذّاكرة؛ ولم يعد الحاضر هو الزّمن، بل تلك السّنوات الّتي تعود بقوّة وتطلب أن تُروى.
تبدو الرّواية منذ بدايتها محاولة لفهم رجل خسرته الرّاوية باكرًا، ومحاولة لفهم الزّمن نفسه: كيف يمرّ؟ وكيف يعود؟ وكيف يخدع من يثق به؟ فالمأساة الّتي تعيشها العائلة ليست حادثة فرديّة، بل جزء من واقع اجتماعيّ أكبر، واقع يسمح للخطر أن يدخل حياة الناس من دون إنذار. وعبر هذا التّوتّر بين ما حدث وما لا يزال حاضرًا في الذّاكرة، تتشكّل الحاجة إلى قراءة الخطاب السّرديّ نفسه: كيف يعيد الزّمن رسم شخصيّة روكي؟ كيف يتحوّل السّرد إلى وسيلة لمساءلة الواقع أكثر من كونه وسيلة لتسجيله؟
بنية الخطاب السّرديّ
يقوم السّرد في "غدّار يا زمن" على بناءٍ يعتمد الذّاكرة مدخلًا والذّات محورًا، لكنّه لا يكتفي باستعادة الوقائع، بل ينشغل بالطّريقة الّتي تتشكّل بها الحكاية حين تعود إلى الوعي بعد الغياب. فالخطاب هنا ليس قناةً محايدة تنقل ما جرى، بل فضاء تتحرّك فيه أصوات متعدّدة، بعضها ظاهر في كلام الرّاوية المباشر، وبعضها يمرّ عبر ما ترويه عن الآخرين، وبعضها يحضر من خلال الأفعال الّتي بقيت آثارها في الذّاكرة. هذا التّنوّع لا يظهر عبر تعدّد الرّواة، وإنّما من خلال مرونة الصّوت الواحد وقدرته على حمل تجارب مختلفة داخل لغته.
وتظهر أهميّة هذا البناء في أنّ الرّواية لا تبدأ بتقديم العالم الخارجيّ أو رسم الإطار الاجتماعيّ، بل من لحظة تستيقظ فيها صورة الأب بمجرّد مشاهدة مشهد سينمائيّ. هذه اللّحظة تحدّد طبيعة الخطاب السّرديّ كلّه، لأنّ الحكاية لا تتقدّم من الخارج إلى الدّاخل، بل من الدّاخل إلى الخارج؛ من أثر شخصيّ ينفتح شيئًا فشيئًا على حياة عائلة كاملة، ثمّ على حيّ، ثمّ على واقع اجتماعيّ يفرض نفسه مرجعًا.
خطّ الذّاكرة الّتي تبحث عن شكل تحمل به ما تبقّى من حياة الرّجل، وخطّ الواقع الذي يطلّ من بين السّطور من خلال تفاصيل صغيرة وملموسة. وبهذا يتكوّن تدريجيًّا أساس القراءة في هذا القسم: فهم الخطاب من خلال الصّوت الّذي يرويها، والزّمن الّذي يعيد ترتيبها، وزاوية النّظر التي تُبنى منها كلّ صورة.
1. الصّوت
أ. صوت الذّات التي تتذكّر
الصّوت هنا محكوم بالعاطفة والارتباك والحنين، ورغم ذلك يظلّ متماسكًا بحكم أنّ الذّاكرة، رغم ألمها، تملك نقاطًا صلبة تعود إليها الرّاوية لترتيب ما بقي من حياة الرّجل.
ب. صوت العائلة الّذي يمرّ من خلال الرّاوية
عندما تذكر أنّ العائلة كانت تركض كلّما رنّ الهاتف بعد اختفاء روكي، فإنّ فِعلَ الرّكض ينقل صوتًا جمعيًّا: خوف الأمّ، ورجاء الإخوة، وارتباك النّهار بأكمله. وبالتّالي، يتحوّل الصّوت الفرديّ (الرّنين) إلى صوت عائليّ، ما يظهر أثر ما قاله باختين عن "الصّوت الجمعيّ داخل الكلمة الواحدة".
ج. صوت روكي في غيابه
هذا النّمط من "الصّوت الصّامت" يقترحه باختين حين يتحدّث عن أشكال الحضور الّتي لا تحتاج إلى لغة منطوقة لتعبّر عن موقع الشّخصيّة داخل الخطاب.
د. صوت المؤسّسة
هذه الجملة، القصيرة والمقتضبة، لا تنتمي للعائلة ولا للرّاوية، بل لخطاب آخر: خطاب الدّولة. وهذه النّقطة تحديدًا من صميم تحليل باختين: "الصّوت الرّسمي" يقتحم النّصّ، لا يظهر من خلال تحليلٍ اجتماعيّ، وإنّما من خلال كلمةٍ مقتطعة تُعيد رسم الحدود بين النّاس والمؤسّسة".
ه. الصّوت المكسور الّذي تخلّفه الفاجعة
هذا التحوّل ليس أسلوبيًّا فقط، بل صوتيًّا؛ لأنّ اللّغة نفسها تنزاح حين يتغيّر مصير الشّخصيّة الرّئيسيّة.
هذا التّعدّد يمنح الرّواية عمقًا إنسانيًّا، ويمنح خطابها السّرديّ قوة تُفسّر لماذا بدت الحياة فيها قريبة من الواقع أكثر من أيّ تنظير.
بالتّالي، يتحرّك السّرد في "غدّار يا زمن" من داخل الذّاكرة، بصوتٍ يبدأ من الذّات وينتشر حولها، وزمنٍ يعود إلى الخلف كلّما حاول التّقدّم. العلاقة بين الصّوت والزّمن ليست علاقة فصل بين "من يروي" و"متى يروي"، بل علاقة تداخل. الصّوت هو الّذي يفتح الباب أمام الزّمن، والزّمن هو الّذي يفرض على الصّوت طريقته في الحكي.
يظهر الزّمن في هذه الرّواية من خلال إيقاع الذّاكرة، وليس من خلال تسلسل الأحداث. الصّوت يلتقط مشهدًا ويعيد تنشيطه، ثم ينتقل إلى مشهد آخر من دون أن ينتظر رابطًا زمنيًّا: الزّمن يتبع شدّة الانفعال، والصّوت يتشكّل وفق اللّحظة الّتي يسترجعها. لذلك نرى السّرد يتوزّع وفق خطّين: صوت يروي من موقع الفقد، وزمن يتشظّى ليمسك بما بقي من حياة البطل.
2. الزّمن
أ. الاسترجاع
ويظهر الاسترجاع في لحظات أخرى، منها حادثة العامل الثّمل الّتي تقول عنها الرّاوية: «انفلتت من روكي صرخة عالية قبل أن يخرج راكضًا إلى الشّارع». هذه العودة تختزن صورة حادّة عن الرّجل كما عرفته أسرته. ويظهر الأمر نفسه في مشهد محاولة سرقة سيّارة الجار، حين تكتب الرّاوية: «فتح الباب بقوّة، خرج مسرعًا، وأطلق النّار في الهواء لإبعادهم». الاسترجاع هنا يحرّك الزّمن بانفعال، فيقدّم الماضي على أنّه جزء من الحاضر.
ب. زمن التّجربة
ج. إعادة تشكيل الماضي
د. زمن يعيد نفسه بطرق مختلفة
وتتبيّن هذه الحركة في قول الراوية: «لم أفهم تلك النّظرة يومها، لكنّني أعود إليها كلّما حاولت أن أستعيد بدايات النّهاية». الجملة نفسها تعمل كخطّ فاصل بين زمنين: زمن عاشته من دون وعي كامل، وزمن تعود إليه الآن لتفهمه.
وعليه، يتداخل الصّوت والزّمن في "غدّار يا زمن" حتّى يصل السّرد إلى لحظة اختفاء روكي، فتلتقي الخيوط السّابقة في حركة واحدة شديدة التّوتّر. الصّوت الّذي كان يستعيد التّفاصيل بهدوء يتغيّر إيقاعه كلّما اقترب من تلك السّاعات الأخيرة، والزّمن الّذي كان يتنقّل بين مشاهد متباعدة يتجمّع داخل لحظة واحدة تفرض حضورها على الوعي. في هذا الالتقاء تتّضح طبيعة الخطاب السّرديّ: صوت يحاول فهم الفقد، وزمن يعود ليلقي الضّوء على ما حدث قبل النّهاية. ومن هنا تتّضح أهمّيّة المشهد الأخير، لأنّه يكشف حقيقة العالم الّذي تحرّكت فيه حياة روكي، ويحوّل الحكاية إلى قراءة صريحة لواقع لا يترك لأحد فرصة النّجاة.
خلاصة القول، تخرج "غدّار يا زمن" من قراءتها بوصفها بنية سرديّة مشغولة بذكاء، تقدّم أنموذجًا لنصّ يُنتِج دلالته من طريقة تشكّله، لا من الأحداث وحدها. البناء يتشكّل على إيقاع صوتٍ يبحث عن معنى، وزمنٍ يعود كلّما احتاج السّرد إلى إعادة ترتيب ما انكسر. ومع هذا التّنامي، تتّجه الرّواية نحو شكلٍ جديد من الواقعيّة؛ واقعيّة تنتقل من رصد الوقائع إلى كشف بنية العيش في مجتمع خرج من الحرب من دون أن يدخل السِّلم. الفراغات بين المشاهد تنتج توتّرًا يساوي حضور العنف في الحياة اليوميّة، والانتقالات المتكرّرة نحو الماضي تمنح كلّ تفصيل موقعًا متحوّلًا داخل السّرد، فتظهر تجربة روكي كخطّ يتكوّن من الإشارات الصّغيرة كما من المصائر الكبيرة. وفي النّهاية، تتجلّى الرّؤية من داخل هذا النّسق: العالم لا يُفهم من خلال الحادثة، بل من خلال الطّريقة الّتي بُنيت بها الرّواية، والطّريقة الّتي أعادت بها الذّاكرة تنظيم التّجربة. وفي الختام أتساءل: كم من أصوات خلّفتها الحربُ سترتفع مع جويل فضّول صارخة: "غدّار يا زَمن"؟
