غسان كنفاني .. رمز لصحوة شعب. ( الجزء الأول )

الكاتب : داوود إبراهيم - فلسطين رفع عن الادب العربي عاره في اعقاب استشهاده.. كتب الفنان الاديب يوسف ادريس يقول: "غسان كنفاني، أول كاتب في تاريخ أدبنا العربي يعيش قضية الى حد الاستشهاد، لقد أحسست لاول مرة في حياتي بفخر اني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني. وعندما طلب من يوسف ادريس باعتباره رائد القصة القصيرة في العالم العربي، وهو الكاتب المعروف بنزاهته وصدقه واصالته وعمق وطنيته.. قال : " ومن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين ، من انا؟ وماذا فعلت للقضية كي اقدم كاتبا فعل من اجلها ما أصبح في عداد الاساطير". سكنت روحه قضية بلاده ويقول عنه الاستاذ احمد بهاء الدين كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم، ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة، ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب العنيف، وقد سكنت روحه قضية بلاده فلسطين. ويقول عنه شاعرنا الكبير محمود درويش: "لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة، ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها..هذه هي مأساته. كاتب مبدع وتقول عنه الدكتورة رضوى عاشور: "لم يكن غسان كنفاني مناضلا فقط، بل كان كاتبا مبدعا له انجازاته الفنية الجديرة بالدراسة، ولا يمكن التعامل مع اعماله الفنية من منطلق ان مكانته كمناضل وشهيد تجعل لزاما علينا تمجيد كتاباته ان احترامنا للرجل يجعل من الضروري أن نعطي اعماله حقها كانجازات فنية اساسا وان نرى ما حققه في هذا المجال ككاتب مبدع. وتقول عنه نفس الكاتبة في موضع آخر: "كان غسان كنفاني اذن مهموما في الاساس بقضايا الامة، ولكن المنشغلين بقضايا الوطن كثيرون، وهم لا يكونون دائما جيدين، فما الذي يميز غسان عنهم، هناك اولا استيعابه الثاقب للواقع، وهناك ايضا اهتمامه بقضية الشكل الفني، وقد توفرت لغسان هاتان الصفتان، ذلك طبعا الى جانب حساسيته الخاصة كمبدع". فلسطين رمز لكنفاني ويقول غسان عن تجربته الابداعية في الكتابة "كنت اكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها، وعن الاطفال الفلسطينيين وعن الانسان الفلسطيني، عن آمال الفلسطينيين بحد ذاتها كأشياء منفصلة عن عالمنا هذا، مستقلة وقائمة بذاتها كوقائع فلسطينية محضة، ثم تبين لي اني اصبحت ارى في فلسطين رمزا انسانيا متكاملا. فأنا عندما اكتب عن عائلة فلسطينية، فانما اكتب في الواقع عن تجربة انسانية. ولا توجد تجربة في العالم غير متمثلة في المأساة الفلسطينية. ويعلق الناقد الادبي فاروق وادي على ذلك بقوله: ذلك يلخص تطور الوعي السياسي لدى غسان كنفاني، والذي نلمس انعكاساته المباشرة في نتاجاته الاخيرة كوعي يفصح عن ذاته بلا مراوغة، باحثا عن ايسر السبل للتواصل مع جمهور عريض.  غسان.. رمز لصحوة شعب لم يكن غسان كنفاني كاتبا، او اديبا او روائيا فقط، وانما كان رمزا حيا ليقظة الشعب الفلسطيني.. رمزا لصحوته ونهوضه وكان تجسيدا حيا لتحول الانسان الفلسطيني واستعادته لهويته. وانما عرضت عليك "شهادة" سريعة لقضية ليست في حاجة الى دليل او برهان فغسان كنفاني يستحق اكثر من دراسة واكثر من وقفة واكثر من مهرجان او احتفال.. انه يستحق ان يؤخذ أدبه.. قصة قصة ورواية رواية .. ليطاف با على كل قرية ومدينة، وكل حي وزقاق وكل جماعة ومدرسة.. ليقرأ ويناقش ويفسر ويحلل. جدير بنا ان نحتفل بهذه العبقرية النضالية الفنية وان ندرسها وندرسها لابنائنا واطفالنا. في كل مرحلة من مراحل الدراسة والتعليم.. وفي كل محفل من محافل الفن والادب والتراث.  لقد كان بعض ابناء الشعب الروسي يأخذون نتاج اديبهم العملاق تشيخوف وخاصة بعض قصصه القصيرة.. ويطوفون بها على القرى والمدن والتجمعات الروسية.. يقرأونها لهم.. ويحللونا ويشرحونها ويضعون ايدي الفلاحين الخشنة على مجالات الابداع فيها.. ولا نرى ان غسان كنفاني دون هذه المنزلة "ليس لانه في عظمة بتشخوف الفنية ولكن لانه يفوقه في عظمته النضالية والثورية والفكرية. ولكن للاسف الشديد فان ،مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا لا زالت تتجاهل هذه الابداعات الفكرية والنضالية، وتفضل لطلابنا وطالباتنا ان يدرسوا قصيدة غزل في "جميلة النورية" مثلا او قصيدة مغامرة سطحية في " هند " الاموية .. او قصيدة هجاء من نقائض جرير والفرزدق.. من نحو : يا ابن المراغة اين خالك انني  خالي حبيش ذو الفعال الافضل الغضب الساطع انك عندما تستحضر نتاج غسان كنفاني الروائي والقصصي والادبي ثم تقرأ ما كتبه النقاد والدارسون في تحليل قصصه ورواياته تشعر بالغضب والثورة.. وتجتاحك مشاعر الالم والمرارة.. فلماذا تحجب هذه النماذج الجميلة الرائعة عن ابنائنا.. ولماذا لا يدرسونها.. ولماذا لا يتعلمون منها.. ولماذا لا نكون علامات مضيئة يقتبسون منها.. لماذا لا توضع تحت ابصارهم وعواطفهم ومشاعرهم لتجعلهم يؤمنون برسالة الفن الحقيقية وهي ضرورة تغيير الواقع الى ما هو افضل واجمل وابدع واعدل ان كمية الصدق والفن التي تضج في هذه الاعمال جديرة بأن تدفعنا الى ان نقرأها مرات ومرات، ولا يقولن احد ان الاحتلال بالمرصاد وانه سيشطب هذه النماذج.. وكيف يوافقون على تدريس ادب غسان وفكره وهم الذين فجروه بخمسة كيلوات من المتفجرات وهذا منطق مرفوض تماما...  ان رواية مثل "رجال" في "الشمس" لا يمكن للرقيب الاسرائيلي ان يعترض عليها.. وبين ما كتب وانتج غسان عشرات القصص التي لا تستفز الرقيب فيشطبها.. اقول ذلك وقد عملت في الصحافة الخاضعة للرقابة اكثر من عشرين عاما.  ثم ان مناهج كليات المجتمع والجامعات.. غير خاضعة بالضرورة للرقابة. ان جميع الحركات الثورية في العالم لا يمكن ان تقوم وتنجح وتحقق اهدافها بعيدا عن "الادب والفكر والصحافة.. ولا بد للأدب دائما ان يكون ممهدا لكل ثورة فاعلة ناجحة.. وليست الثورة الفلسطينية استثناء من هذه القاعدة التي يشهد التاريخ بصدقها.. بل انها شاهد حقيقي على صدق هذه المقولة. بعيدا عن الايديولوجيات من اجل هذا وجب أن ندرس غسان وان نفهمه وان نتواصل معه.. ومهما كان فكره الايديولوجي منافيا أو متطابقا مع نراه فذلك اعتبار يجب ان يكون لاغيا او اغير وارد.. نحن نتعامل مع غسان كرمز اكبر من اي تنظيم واسمى من كل "فصيل" كيف لا ..؟ وهو الذي يقول صراحة عن نفسه: " ففي وسع الناقد الادبي الان ان يلاحظ بان قصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني فحسب، بل تتناول حالة انسانية لانسان يقاسي من المشاكل اياها ولكن ربما كانت تلك المشاكل اكثر تبلورا في حياة الفلسطيني.  غسان كنفاني اذن يجسد موهبة ادبية وفنية تشكل قيمة عظيمة على مستوى الوطن والانسان الفلسطيني، بل على مستوى الانسان في كل مكان وزمان وهو فنان يمتلك ادواته الفنية ويسيطر عليها. وقد يختلف النقاد على مدى اتقانه وسيطرته على هذه الادوات بين عمل وآخر لكنهم يجمعون على ان حظه من الابداع الفني يضعه في طليعة كتاب القصة في عالمنا العربي..  الفنان في خدمة المناضل وغسان كنفاني "حالة ملفته للنظر في عالم الابداع الفني او الادبي فهو نوع نادر من الفنانين ذلك النوع الذي يتوحد مع قضيته.. ففلسطين وقضيتها وشعبها.. هي كل عالم وعقل وفكر ووجدان غسان كنفاني. اي ان غسان الاديب بضع كل ملكاته واوراقه وتراثه في خدمة غسان المناضل.. وربما لا نتجاوز الحقيقة اذا قلنا ان الفصل بين الفنان والمناضل امر غير ممكن.. فها هنا وجدان واحد وفكر موحد وقضية واحدة. وهذه حالة نادرة" ولا نريد ان نتتطرف ونقول انها شاذة.. فنحن نعرف الادباء والفنانين في غالبيتهم الساحقة يحسنون "القول" وقليلا ما يحسنون الفعل انهم احسن من " ينظرون" ولكنهم آخر من يعملون. وكثيرا ما يدفعهم شيطان الفن الى عالم النزوة او يلقي بهم في خضم الفردية او الازدواجية.. وكثيرا ما عاشوا هذه الحالة المزدوجة بصورة صريحة تدعو الى النفور .. فهم على الورق ارباب فكر ونضال وثورة ودعاة تحرر واستشهاد وكدح وريادة ولكنهم في حياتهم اليومية يمارسون كل الوان "التهتك" خاصة واننا في عصر يستطيع الاديب فيه ان يكسب" ويستطيع ان يثري وينتفخ اذا اجاد لعبة القفز على الحبال والانتقال من منبر الى منبر ومن صحيفة الى صحيفة ومن شاشة الى شاشة ومن ميكرفون الى ميكروفون.  لم يكن غسان، ولو للحظة ما في حياته القصيرة الصحفية يعرف هذا النوع من الدجل" فمنذ اللحظات الأولى من حياته العملية وهو يجند نفسه ويبرمج ظروفه ويخضعها ويطوعها لخدمة قضية وطنه. الا ترى انه عمل وهو لا يزال فتى يافعا عمل "عاملا في مطبعة... فهو يبحث عن لقمة عيشه ليعول نفسه واخوته قريبا من عالم الكلمة ومجال الاختيار امام صبي صغير ضيق.. او اكثر من ضيق، ومع ذلك فانه يختار المطبعة ليكون عاملا فيها.. ومن ثم "مصححا".. انه يعرف ان "الكلمة" هي محور حياته وان "الحرف" هو عدته وذخيرته سلامه في محاربة قضيته.. فليس غريبا بعد ذلك ان يكون المطبعة التي محطته الاولى في رحلة حياته او قل في مشوار كفاحه. المخيم.. عالم الطفل الفلسطيني وعندما انهى تعليمة الثانوى وعمل مدرسا في احدى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية. كان هاجسه الوحيد، قضية وطنه وابناء شعبه.. ومن هنا تفهم لماذا رفض ان يطلب من التلاميذ رسم موزة وتفاحة وطلب منهم بدلا من ذلك ان يرسموا المخيم. وهكذا تستطيع ان تتبع حياة غسان كنفاني. منذ ان خرج من عكا في عام ١٩٤٨ الى يوم استشهاده في ضحى اليوم الثامن من شهر تموز عام ۱۹۷۲.. لتجد انها في كل فعالياتها وآليتها تدور حول محور واحد ووحيد هو فلسطين.. شعبها.. ونضالها.. وثورتها.. وانتصارها وعودتها. كم من هؤلاء عاشوا القضية هذا التوحد الفريد بين القضية والفنان قد تجده لدى ادباء ومناضلين فلسطينيين آخرين.. فالواقع ان فلسطين تسكن قلب كل كاتب واديب فلسطيني.. وانه لمن الترف ان نقرأ لاديب فلسطيني قصيدة "غزل" مثلا.. وان كان ذلك لا يتنافر مع الاصالة والثورة وصدق المشاعر الوطنية .. اقول .. لا بد لأدباء فلسطين كتابها وشعرائها وقصاصيها ان ينسجوا من حياة شعبهم ومأساة وطنهم نتاجهم الأدبي والفني على اساس ان قضية وطنهم هي هاجسهم الاول وشاغلهم في كل لحظة من حياتهم يصدق ذلك على محمود درويش وسميح القاسم وسميرة عزام وعبد الرحيم محمود ومعين بسيسو عبد الكريم الكرمي كما يصدق على هارون هاشم رشيد وعز الدين المناصرة وتوفيق زیاد واكرم هنية وغيرهم.  ولكن كم من هؤلاء عاش القضية ومات في سبيلها.. على سبيل الحقيقة وبالمعنى الحرفي للكلمات وليس على سبيل المجاز.. كان غسان كنفاني مصابا بالسكر.. وكان يحقن نفسه بنفسه في بعض الاحيان، وكان في سباق رهيب مع الموت وكان في كل لحظة من لحظات حياته يعمل ويبدع ويناضل من اجل فلسطين.  ليس لي ان اختار يقول غسان لاحد اصدقائه "الان تشتد على نصائح الاصدقاء بان لا اولى الصحافة كل هذا الاهتمام فهي - في النهاية كما يقولون ستقضي على امكانياتي الفنية بكتابة القصة. انا بصراحة لا افهم هذا المنطق. فهو نفس منطق النصائح التي كنت اسمعها وانا في المدرسة الثانوية. اترك السياسة واهتم بدروسك ، والنصائح التي سمعتها يعد ذلك في الكويت اترك الكتابة واهتم بصحتك هل كان عندي حقا خيارين المدرسة والسياسة الكتابة والصحة، حتى يكون الان عندي خيار بين الصحافة والقضية انا اريد ان اقول شيئا، احيانا استطيع قوله بكتابة الخبر الرئيسي في صحيفة "الغد" واحيانا بصياغة الافتتاحية، او صياغة خبر صغير في صفحة المجتمع. بعض المرات لا استطيع ان اقول الذي اريده الا بقصة الاختبار الذي يتحدثون عنه ليس له وجود وهو يذكرني بأحد الزملاء من معلمي اللغة العربية الذي يطلب مع بداية كل عام من تلامذته كتابة موضوعه الانشائي المفضل : ايهما تفضل: "حياة القرية ام حياة المدينة".. في حين ان معظم الطلاب يعيشون في المخيمات ومعظم التلاميذ يعيشون في المخيمات. ونتعلم من مواقفه وفي رسالته الاخيرة، كتب غسان كنفاني يقول: "المرض يشتد علي واشعر دائما بالاعياء والتعب، ولكثني لا اذهب للفراش هناك شعور خفي بان الذين يقعدون الان لن يقوموا ابدا. هذه الروح المقاتلة بكل هذه البسالة وبكل هذا العزم والاصرار، تستحق بالفعل ان تكون نموذجا وقدوة. اننا نؤرخ لغسان. لانه اديب وفنان ملتزم حتى آخر قطرة من دمه في سبيل قضيته وهدفه ولانه صاحب موهبة ادبية وفنية تستحق الدراسة والشرح والمعايشة ولانه "حالة نضالية نادرة.. حيث يفعل الانسان ما يقول ويقول ما يفعل. ولانه "رمز" وقدوة "ونموذج" نتعلم من حياته وفنه ومواقفه الكثير.  تابع الجزء الثاني من حياة غسان كنفاني

الكاتب : داوود إبراهيم - فلسطين

رفع عن الادب العربي عاره

في اعقاب استشهاده.. كتب الفنان الاديب يوسف ادريس يقول: "غسان كنفاني، أول كاتب في تاريخ أدبنا العربي يعيش قضية الى حد الاستشهاد، لقد أحسست لاول مرة في حياتي بفخر اني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني.
وعندما طلب من يوسف ادريس باعتباره رائد القصة القصيرة في العالم العربي، وهو الكاتب المعروف بنزاهته وصدقه واصالته وعمق وطنيته.. قال : " ومن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين ، من انا؟ وماذا فعلت للقضية كي اقدم كاتبا فعل من اجلها ما أصبح في عداد الاساطير".

سكنت روحه قضية بلاده

ويقول عنه الاستاذ احمد بهاء الدين كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم، ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة، ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب العنيف، وقد سكنت روحه قضية بلاده فلسطين.
ويقول عنه شاعرنا الكبير محمود درويش: "لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة، ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها..هذه هي مأساته.

كاتب مبدع

وتقول عنه الدكتورة رضوى عاشور: "لم يكن غسان كنفاني مناضلا فقط، بل كان كاتبا مبدعا له انجازاته الفنية الجديرة بالدراسة، ولا يمكن التعامل مع اعماله الفنية من منطلق ان مكانته كمناضل وشهيد تجعل لزاما علينا تمجيد كتاباته ان احترامنا للرجل يجعل من الضروري أن نعطي اعماله حقها كانجازات فنية اساسا وان نرى ما حققه في هذا المجال ككاتب مبدع. وتقول عنه نفس الكاتبة في موضع آخر: "كان غسان كنفاني اذن مهموما في الاساس بقضايا الامة، ولكن المنشغلين بقضايا الوطن كثيرون، وهم لا يكونون دائما جيدين، فما الذي يميز غسان عنهم، هناك اولا استيعابه الثاقب للواقع، وهناك ايضا اهتمامه بقضية الشكل الفني، وقد توفرت لغسان هاتان الصفتان، ذلك طبعا الى جانب حساسيته الخاصة كمبدع".

فلسطين رمز لكنفاني

ويقول غسان عن تجربته الابداعية في الكتابة "كنت اكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها، وعن الاطفال الفلسطينيين وعن الانسان الفلسطيني، عن آمال الفلسطينيين بحد ذاتها كأشياء منفصلة عن عالمنا هذا، مستقلة وقائمة بذاتها كوقائع فلسطينية محضة، ثم تبين لي اني اصبحت ارى في فلسطين رمزا انسانيا متكاملا. فأنا عندما اكتب عن عائلة فلسطينية، فانما اكتب في الواقع عن تجربة انسانية. ولا توجد تجربة في العالم غير متمثلة في المأساة الفلسطينية.

ويعلق الناقد الادبي فاروق وادي على ذلك بقوله: ذلك يلخص تطور الوعي السياسي لدى غسان كنفاني، والذي نلمس انعكاساته المباشرة في نتاجاته الاخيرة كوعي يفصح عن ذاته بلا مراوغة، باحثا عن ايسر السبل للتواصل مع جمهور عريض.

غسان.. رمز لصحوة شعب

لم يكن غسان كنفاني كاتبا، او اديبا او روائيا فقط، وانما كان رمزا حيا ليقظة الشعب الفلسطيني.. رمزا لصحوته ونهوضه وكان تجسيدا حيا لتحول الانسان الفلسطيني واستعادته لهويته.

وانما عرضت عليك "شهادة" سريعة لقضية ليست في حاجة الى دليل او برهان فغسان كنفاني يستحق اكثر من دراسة واكثر من وقفة واكثر من مهرجان او احتفال.. انه يستحق ان يؤخذ أدبه.. قصة قصة ورواية رواية .. ليطاف با على كل قرية ومدينة، وكل حي وزقاق وكل جماعة ومدرسة.. ليقرأ ويناقش ويفسر ويحلل. جدير بنا ان نحتفل بهذه العبقرية النضالية الفنية وان ندرسها وندرسها لابنائنا واطفالنا. في كل مرحلة من مراحل الدراسة والتعليم.. وفي كل محفل من محافل الفن والادب والتراث.

لقد كان بعض ابناء الشعب الروسي يأخذون نتاج اديبهم العملاق تشيخوف وخاصة بعض قصصه القصيرة.. ويطوفون بها على القرى والمدن والتجمعات الروسية.. يقرأونها لهم.. ويحللونا ويشرحونها ويضعون ايدي الفلاحين الخشنة على مجالات الابداع فيها.. ولا نرى ان غسان كنفاني دون هذه المنزلة "ليس لانه في عظمة بتشخوف الفنية ولكن لانه يفوقه في عظمته النضالية والثورية والفكرية.
ولكن للاسف الشديد فان ،مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا لا زالت تتجاهل هذه الابداعات الفكرية والنضالية، وتفضل لطلابنا وطالباتنا ان يدرسوا قصيدة غزل في "جميلة النورية" مثلا او قصيدة مغامرة سطحية في " هند " الاموية .. او قصيدة هجاء من نقائض جرير والفرزدق..
من نحو :
يا ابن المراغة اين خالك انني 
خالي حبيش ذو الفعال الافضل

الغضب الساطع

انك عندما تستحضر نتاج غسان كنفاني الروائي والقصصي والادبي ثم تقرأ ما كتبه النقاد والدارسون في تحليل قصصه ورواياته تشعر بالغضب والثورة.. وتجتاحك مشاعر الالم والمرارة.. فلماذا تحجب هذه النماذج الجميلة الرائعة عن ابنائنا.. ولماذا لا يدرسونها.. ولماذا لا يتعلمون منها.. ولماذا لا نكون علامات مضيئة يقتبسون منها.. لماذا لا توضع تحت ابصارهم وعواطفهم ومشاعرهم لتجعلهم يؤمنون برسالة الفن الحقيقية وهي ضرورة تغيير الواقع الى ما هو افضل واجمل وابدع واعدل ان كمية الصدق والفن التي تضج في هذه الاعمال جديرة بأن تدفعنا الى ان نقرأها مرات ومرات، ولا يقولن احد ان الاحتلال بالمرصاد وانه سيشطب هذه النماذج.. وكيف يوافقون على تدريس ادب غسان وفكره وهم الذين فجروه بخمسة كيلوات من المتفجرات وهذا منطق مرفوض تماما...

ان رواية مثل "رجال" في "الشمس" لا يمكن للرقيب الاسرائيلي ان يعترض عليها.. وبين ما كتب وانتج غسان عشرات القصص التي لا تستفز الرقيب فيشطبها.. اقول ذلك وقد عملت في الصحافة الخاضعة للرقابة اكثر من عشرين عاما.

ثم ان مناهج كليات المجتمع والجامعات.. غير خاضعة بالضرورة للرقابة. ان جميع الحركات الثورية في العالم لا يمكن ان تقوم وتنجح وتحقق اهدافها بعيدا عن "الادب والفكر والصحافة.. ولا بد للأدب دائما ان يكون ممهدا لكل ثورة فاعلة ناجحة.. وليست الثورة الفلسطينية استثناء من هذه القاعدة التي يشهد التاريخ بصدقها.. بل انها شاهد حقيقي على صدق هذه المقولة.

بعيدا عن الايديولوجيات

من اجل هذا وجب أن ندرس غسان وان نفهمه وان نتواصل معه.. ومهما كان فكره الايديولوجي منافيا أو متطابقا مع نراه فذلك اعتبار يجب ان يكون لاغيا او اغير وارد.. نحن نتعامل مع غسان كرمز اكبر من اي تنظيم واسمى من كل "فصيل" كيف لا ..؟ وهو الذي يقول صراحة عن نفسه: " ففي وسع الناقد الادبي الان ان يلاحظ بان قصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني فحسب، بل تتناول حالة انسانية لانسان يقاسي من المشاكل اياها ولكن ربما كانت تلك المشاكل اكثر تبلورا في حياة الفلسطيني.

غسان كنفاني اذن يجسد موهبة ادبية وفنية تشكل قيمة عظيمة على مستوى الوطن والانسان الفلسطيني، بل على مستوى الانسان في كل مكان وزمان وهو فنان يمتلك ادواته الفنية ويسيطر عليها. وقد يختلف النقاد على مدى اتقانه وسيطرته على هذه الادوات بين عمل وآخر لكنهم يجمعون على ان حظه من الابداع الفني يضعه في طليعة كتاب القصة في عالمنا العربي..

الفنان في خدمة المناضل

وغسان كنفاني "حالة ملفته للنظر في عالم الابداع الفني او الادبي فهو نوع نادر من الفنانين ذلك النوع الذي يتوحد مع قضيته.. ففلسطين وقضيتها وشعبها.. هي كل عالم وعقل وفكر ووجدان غسان كنفاني. اي ان غسان الاديب بضع كل ملكاته واوراقه وتراثه في خدمة غسان المناضل.. وربما لا نتجاوز الحقيقة اذا قلنا ان الفصل بين الفنان والمناضل امر غير ممكن.. فها هنا وجدان واحد وفكر موحد وقضية واحدة.
وهذه حالة نادرة" ولا نريد ان نتتطرف ونقول انها شاذة..

فنحن نعرف الادباء والفنانين في غالبيتهم الساحقة يحسنون "القول" وقليلا ما يحسنون الفعل انهم احسن من " ينظرون" ولكنهم آخر من يعملون. وكثيرا ما يدفعهم شيطان الفن الى عالم النزوة او يلقي بهم في خضم الفردية او الازدواجية.. وكثيرا ما عاشوا هذه الحالة المزدوجة بصورة صريحة تدعو الى النفور .. فهم على الورق ارباب فكر ونضال وثورة ودعاة تحرر واستشهاد وكدح وريادة ولكنهم في حياتهم اليومية يمارسون كل الوان "التهتك" خاصة واننا في عصر يستطيع الاديب فيه ان يكسب" ويستطيع ان يثري وينتفخ اذا اجاد لعبة القفز على الحبال والانتقال من منبر الى منبر ومن صحيفة الى صحيفة ومن شاشة الى شاشة ومن ميكرفون الى ميكروفون.

لم يكن غسان، ولو للحظة ما في حياته القصيرة الصحفية يعرف هذا النوع من الدجل" فمنذ اللحظات الأولى من حياته العملية وهو يجند نفسه ويبرمج ظروفه ويخضعها ويطوعها لخدمة قضية وطنه. الا ترى انه عمل وهو لا يزال فتى يافعا عمل "عاملا في مطبعة... فهو يبحث عن لقمة عيشه ليعول نفسه واخوته قريبا من عالم الكلمة ومجال الاختيار امام صبي صغير ضيق.. او اكثر من ضيق، ومع ذلك فانه يختار المطبعة ليكون عاملا فيها.. ومن ثم "مصححا".. انه يعرف ان "الكلمة" هي محور حياته وان "الحرف" هو عدته وذخيرته سلامه في محاربة قضيته.. فليس غريبا بعد ذلك ان يكون المطبعة التي محطته الاولى في رحلة حياته او قل في مشوار كفاحه.

المخيم.. عالم الطفل الفلسطيني

وعندما انهى تعليمة الثانوى وعمل مدرسا في احدى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية. كان هاجسه الوحيد، قضية وطنه وابناء شعبه.. ومن هنا تفهم لماذا رفض ان يطلب من التلاميذ رسم موزة وتفاحة وطلب منهم بدلا من ذلك ان يرسموا المخيم.
وهكذا تستطيع ان تتبع حياة غسان كنفاني. منذ ان خرج من عكا في عام ١٩٤٨ الى يوم استشهاده في ضحى اليوم الثامن من شهر تموز عام ۱۹۷۲.. لتجد انها في كل فعالياتها وآليتها تدور حول محور واحد ووحيد هو فلسطين.. شعبها.. ونضالها.. وثورتها.. وانتصارها وعودتها.

كم من هؤلاء عاشوا القضية

هذا التوحد الفريد بين القضية والفنان قد تجده لدى ادباء ومناضلين فلسطينيين آخرين.. فالواقع ان فلسطين تسكن قلب كل كاتب واديب فلسطيني.. وانه لمن الترف ان نقرأ لاديب فلسطيني قصيدة "غزل" مثلا.. وان كان ذلك لا يتنافر مع الاصالة والثورة وصدق المشاعر الوطنية .. اقول .. لا بد لأدباء فلسطين كتابها وشعرائها وقصاصيها ان ينسجوا من حياة شعبهم ومأساة وطنهم نتاجهم الأدبي والفني على اساس ان قضية وطنهم هي هاجسهم الاول وشاغلهم في كل لحظة من حياتهم يصدق ذلك على محمود درويش وسميح القاسم وسميرة عزام وعبد الرحيم محمود ومعين بسيسو عبد الكريم الكرمي كما يصدق على هارون هاشم رشيد وعز الدين المناصرة وتوفيق زیاد واكرم هنية وغيرهم.

ولكن كم من هؤلاء عاش القضية ومات في سبيلها.. على سبيل الحقيقة وبالمعنى الحرفي للكلمات وليس على سبيل المجاز.. كان غسان كنفاني مصابا بالسكر.. وكان يحقن نفسه بنفسه في بعض الاحيان، وكان في سباق رهيب مع الموت وكان في كل لحظة من لحظات حياته يعمل ويبدع ويناضل من اجل فلسطين.

ليس لي ان اختار

يقول غسان لاحد اصدقائه
"الان تشتد على نصائح الاصدقاء بان لا اولى الصحافة كل هذا الاهتمام فهي - في النهاية كما يقولون ستقضي على امكانياتي الفنية بكتابة القصة. انا بصراحة لا افهم هذا المنطق. فهو نفس منطق النصائح التي كنت اسمعها وانا في المدرسة الثانوية. اترك السياسة واهتم بدروسك ، والنصائح التي سمعتها يعد ذلك في الكويت اترك الكتابة واهتم بصحتك هل كان عندي حقا خيارين المدرسة والسياسة الكتابة والصحة، حتى يكون الان عندي خيار بين الصحافة والقضية انا اريد ان اقول شيئا، احيانا استطيع قوله بكتابة الخبر الرئيسي في صحيفة "الغد" واحيانا بصياغة الافتتاحية، او صياغة خبر صغير في صفحة المجتمع. بعض المرات لا استطيع ان اقول الذي اريده الا بقصة الاختبار الذي يتحدثون عنه ليس له وجود وهو يذكرني بأحد الزملاء من معلمي اللغة العربية الذي يطلب مع بداية كل عام من تلامذته كتابة موضوعه الانشائي المفضل : ايهما تفضل: "حياة القرية ام حياة المدينة".. في حين ان معظم الطلاب يعيشون في المخيمات ومعظم التلاميذ يعيشون في المخيمات.

ونتعلم من مواقفه

وفي رسالته الاخيرة، كتب غسان كنفاني يقول: "المرض يشتد علي واشعر دائما بالاعياء والتعب، ولكثني لا اذهب للفراش
هناك شعور خفي بان الذين يقعدون الان لن يقوموا ابدا. هذه الروح المقاتلة بكل هذه البسالة وبكل هذا العزم والاصرار، تستحق بالفعل ان تكون نموذجا وقدوة.
اننا نؤرخ لغسان.
لانه اديب وفنان ملتزم حتى آخر قطرة من دمه في سبيل قضيته وهدفه ولانه صاحب موهبة ادبية وفنية تستحق الدراسة والشرح والمعايشة ولانه "حالة نضالية نادرة.. حيث يفعل الانسان ما يقول ويقول ما يفعل.
ولانه "رمز" وقدوة "ونموذج" نتعلم من حياته وفنه ومواقفه الكثير.

تابعوا الأجزء الأخرى من كتاب " غسان كنفاني مناضلا ومفكراً " حياته - فكره وأدبه - نضاله وإستشهاده

الجزء الأول

الجزء الثاني 

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الجزء الخامس

الجزء السادس 



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-