غسان كنفاني ... كاتباً وأديباً ( الجزء الرابع )

الكاتب : داود إبراهيم يمثل غسان كنفاني نموذجا خاصا للكاتب السياسي والروائي والقاص والناقد، كتب القصة القصيرة، ورسم اللوحة الفنية كما كتب المقالة السياسية والرواية وكتب دراسات ادبية متميزة، وكان مبدعا في كل كتاباته، كما كان مبدعا في حياته ونضاله واستشهاده.  وقد نال عام ١٩٦٦ جائزة اصدقاء الكتاب في لبنان" لافضل رواية، وذلك عن روايته "ما تبقى لكم"، كما نال جائزة منظمة الصحفيين العالمية عام ١٩٧٤ ونال جائزة اللوتس التي يمنحها اتحاد كتاب اسيا وافريقيا عام ١٩٧٥. وقد ترجمت روايته "رجال في الشمس" الى الانجليزية والفرنسية والهولندية والالمانية والهنغارية والنرويجية والسويدية والتشيكية، كما حولت الى فيلم سينمائي اخرجه المخرج المصري الجاد "توفيق صالح" بعنوان "المخدوعون" وقد فاز هذا الفيلم بعدد من الجوائز منها جائزة مهرجان قرطاج في تونس وجائزة مهرجان الافلام الكاثوليكية في باريس، وجائزة افلام حقوق الانسان في ستراسبورغ.  كما ترجمت روايته المعروفة عائد الى حيفا" الى اليابنية وكل ذلك وغيره يدلك على ان غسان كان اديبا وكاتبا وفنانا من نوع متميز لقد استطاع غسان بنفاذ بصيرته وبوعي الفنان الفنان الصادق ان يلمس جذور المشكلة المتمثلة في المأساة الفلسطينية التي كان يعيشها حتى العظام، وجعله وعيه يدرك الى جانب من عليه يقف، وعن اية قضية عليه ان يدافع ويكرس حياته لعد ختار غسان أن يقف الى جانب الفقراء وسكان المخيمات من ابناء شعبه. ومن يقرأ قصص غسان ورواياته يدرك دون عناء ان اشخاصه من ابناء الشعب البسطاء، وكثير منهم اطفال او شبان يعملون بدافع من صدق الفطرة، دون ان يبلغوا سن الحكمة وليس فيهم من يحاول ان يفلسف الدور الذي يؤديه او الغاية التي يسعى اليها.  يقول غسان كنفاني عن تجربته القصصية "ان كل قصة كتبتها ترتبط بطريقة مباشرة او غير مباشرة وبخيط دقيق او متين من تجاربي الشخصية في الحياة.. ويقول في موضع آخر "عندما اصور بؤس لفلسطينيين فانا في الحقيقة اشعر أن الفلسطيني كرمز للبؤس في العالم اجمع، او بامكانك القول بأن فلسطين تمثل العالم برمته في قصصي، ففي وسع الناقد الادبي ان يلاحظ بأن قصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني ومشاكله فحسب بل تتناول حالة انسانية لانسان يقاسي من المشاكل اياها.  ولكن ربما كانت تلك المشاكل اكثر تبلورا في حياة الفلسطيني. ويقول غسان في نفس الحديث السابق اظن ان التأثير الأكبر على كتاباتي يرجع الى الواقع نفسه، ما اشاهده، تجارب اصدقائي وعائلتي واخواني وتلاميذي، تعايش في المخيمات مع الفقر والبؤس، هذه هي العوامل التي اثرت في لقد استوحيت كافة ابطال رواياتي من الواقع الذي كان يصدمني بقوة وليس من الخيال. ويقول يوسف اردريس عن ادب غسان كنفاني في معرض تقديمه لاحدى قصصه : " الكتابة قضية، والكاتب انسان صاحب قضية يؤمن بها ويتبناها الى حد يحشد فيه كل ما يمتلك من حساسية لاستيعابها وكل ما يمتلك من قدرة للتعبير عن احساسه ذاك ليعبر عنها بألف لون ونوع من التعبير.  ويضيف يوسف ادريس قائلا : ان غسان اول كاتب في كل تاریخ ادبنا العربي يعيش قضية بلاده الى حد الشهادة. لقد كانت فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان، وموضوع رواياته وفعاليات قصصه القصيرة، وكانت ايضا موضوع حياته وموضوع موته.  ويقول احمد خليفة في دراسة له بعنوان "عالم القضية الفلسطينية في ادب غسان كنفاني ان عالم غسان كنفاني الفني الفلسطيني لم يكن طوال الوقت، ومنذ ان بدأ ببنيه لبنة لبنة حتى استشهاده عالما ساكنا. ان ثمة انقلابا كبيرا يحدث في هذا العالم مواز في الحقيقة للانقلاب الذي يحدث داخل عالم الشعب الفلسطيني ذاته على ارض الواقع، بحيث يمكن القول ان ادب غسان كان دائما المرآة الامينة التي عكست صورة وحركة الشعب الذي كان منه وله طوال حياته واستشهد في النهاية من اجله.  لقد كان غسان كنفاني واحدا من الذين أثروا النضال الفلسطيني بالادب المقاتل، ورووا الثرى بدماء سخية، وترجموا الالتزام الى فعل حقيقي وحولوا المقولات والنظريات الى ممارسات وافعال على ارض الواقع الملموس ، حولوا الكلمات الى معايشة حقيقية نابضة، لقد كتب القصة والمسرحية والمقالة الادبية والسياسية والنقدية، وحين حمل الفرشاة ليرسم عاد من جديد يجسد بوس المآساة وحلم العودة، ولكنه مع ذلك ظل ينظر الى الادب الفلسطيني في الداخل حيث الحصار والقمع والكبت، على انه الادب الحقيقي المعبر عن الالتزام الكامل بالارض. يقول غسان كنفاني في ذلك.  الادب لا يستطيع ان يكون نقيا، فحين يكون بعيدا عن ترابه يحمل معدنه الصدأ، ويظل بشكل غريب، وحين يجيء من تحت الارض والقهر ، يحمل في ثناياه صوت الارض الحقيقي يحمل زخات المطر، وصرير الابواب ولهات المحراث.  فالبرغم من انه مضى في ذروة الشباب، حيث انه لم يأخذ من عمر الزمن الاستة وثلاثين عاما، الا انه كان غزير الانتاج حيث ترك لتاريخ الادب الفلسطيني ارثا لم يصنعه غيره ممن احنى الدهر قاماتهم وهم قابضون على اقلامهم اكان هاجس الموت يطارده ام كان في مباراة مع الزمن ؟  تأتي الاجابة من شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي كان غسان كنفاني اول من قدمه لقراء العربية يقول محمود درويش : لم يكن غسان صبورا، فمن وصل ساحة الموت لا يتحلى بالصبر، ان شراهة الحياة تجعله كالعاصفة مندفعا ومتفجرا على الدوام.. لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها.. هذه مأساته. كانت كافة كتاباته تعالج قضية شعبه الوطنية بشكل يدلل على خصوصية الحساسية اتجاه كل ماله علاقة بالوطن، وكان اول انتاج ادبي له عبارة عن قصة قصيرة بعنوان "شمس جديدة" نشرتها له مجلة الادب البيروتية، بالرغم من انه كتب قصة موت سرير" رقم ۱۲ قبل ذلك، ومن ثم تدفق انتاجه المتألق.  ويعلل غسان كنفاني اتجاهه الى القصة القصيرة وتركيزه عليها دون غيرها الى قراءاته المتأنية لعمالقة الفن القصصي من امثال تشيخوف وموباسان، وغوغول وآرنست همنجواي وشتاينبك، وكالدويل وفوكنر ،وتولستوي، وغيرهم. كما انه تأثر بوجه خاص بالكاتب الروسي "ديستوفيسكي".  يقول غسان كنفاني : انني بصورة ما، مدين لهؤلاء في الشعور العميق الذي ما ازال احمله في اعماقي بأن العالم لا يمكن فهمه الا من خلال الناس، والناس قصص. كانت فلسطين بالنسبة لغسان كنفاني تمثل رؤية شمولية للعالم، يرى معاناة البشرية من خلالها، فهي النموذج الذي تقاس عليه تجارب الشعوب والشعب الذي يأخذ تجاربه من نماذج اخرى لكافة الشعوب.  والواقع ان هذا النضج الفني الرفيع الذي تتميز به معظم اعمال غسان كنفاني لم يكن ان يتم الا بعد ان اخذت التجربة مداها وتعمقت المأساة في نفسه ومشاعره طولا وعرضا وعمقا، فأضحت تجربته اكثر شمولا واكبر حجما واعمق جذورا. دائما هاجس فلسطين يترك بصماته على كل كلمة يكتبها يرفدها بمداد قلمه كما رفدها بدمه.. لماذا؟ ويأتيك الجواب حادا وصريحا على لسان غسان نفسه:  ذلك لانني واحد من هذا الجيل الذي دفع غاليا ثمن الحصرم الذي ملأ امعاء قيادتنا، لان فلسطين بالنسبة لي هي المستقبل. رؤية نقدية ومن يستقرىء مقالات و دراسات غسان كنفاني الادبية يستطيع ان يلمح بوضوح رؤية نقدية واضحة المعالم لفهمه للادب ودوره ورسالته فهو يرى ان قيمة العمل الادبي تتوقف على درجه ارتباطه بالواقع الاجتماعي ولا يكفي الارتباط بهذا الواقع بأن يكون الكاتب مرآة تعكس الواقع كما هو،بل ينبغي عليه ان يغير ويعمق هذا الواقع، وان يقدم رؤية متفائلة لما يجب ان يكون عليه الواقع. ويكتسب العمل الادبي عموميته وانسانيته من خلال الخصائص المحلية التي يكشف عنها، وليس من خلال محاكاته للنماذج، ويجب الاخذ في الاعتبار عند دراستنا للأعمال الادبية، طبيعة الظروف التي تخلق فيها تلك الاعمال الادبية، على ان ما يصدق على الادب في ظل الاحتلال لا يصدق عليه بعيدا عن الاحتلال.  ومن المهم ان لا يغفل الكاتب او الفنان عن القوانين الضرورية للعمل الفني حتى يعبر عن افكاره السياسية بنجاح وباسلوب تعبيري بعيد عن الاسلوب الخطابي المباشر، فالرواية يجب ان تكون مترابطة الاحداث منطقية الوقائع، وكذلك الشعر يجب ان توضع مختلف صورة ، ورموزه في وحدة عضوية متماسكة. لقد كان غسان كنفاني باحساسه المرهف، وطاقاته الفنية الفذة اسبق من غيره لمعرفة الطريق الى الخلاص، وكان غسان متقدما على طبقته البرجوازية الصغيرة، واكثر ثورية منها.. بفضل هذا الاحساس المرهف، وذلك البعد الانساني العميق، لم یکن غسان اديبا فحسب بل كان ناقدا فنيا عميقا فقد كان اول من اطلع العالم العربي على ادب المقاومة في الارض المحتلة كما انه كان أول من اطلع القارىء العربي على "الادب الصهيوني".  اضف الى كل ذلك فان غسان كنفاني كان رساما موهوبا وصحفيا متميزا وسياسيا فذا له طاقات عظمى على الفعل والتأثير.  ولكن، ومهما اختلفت اداة الفعل والتأثير التي حملها وسواء اكانت الريشة او القلم او البندقية فان ما كان يميزه هو انتماؤه الأصيل والعميق للانسان والقضية.. انسان القضية وقضية الانسان. غسان بين السياسة والفن المتأمل في نتاج غسان الادبي لا بد ان يلاحظ تطور الوعي السياسي لديه كما يعكسه ذلك الانتاج الادبي، فهو يفصح عن ذاته بلا مراوغة باحثا عن ايسر السبل للتواصل مع جمهور عريض، مضحيا ببعض التنازلات على صعيد البناء الفني، ومتراجعا عن النقطة التي وصل اليها ككاتب في روايتيه الاولى والثانية.. أي رجال في الشمس، وما تبقى لكم تراجعا واضحا في الناحيتين التقنية والتجريبية.  لقد شهدت السنوات الاخيرة من حياة الكاتب تحولا جذريا في معتقداته وقناعاته السياسية والايديولوجية، ولكن غسان كنفاني روائيا لم يكن مشروطا بهذه الارتباطات العقائدية وهو  يخلق فنه الروائي، اذ انه تجاوز بهذا الفن المرتكزات الايديولوجية التي كانت تحركه في ممارساته السياسية، واعتنق بوعي او بدون وعي نقيضها الفكري قبل سنوات من تعبیره السياسي عن اقتناع الفكر الجديد لقد سبق غسان كنفاني - ككاتب روائي ذاته كمناضل سياسي الى المواقع الفكرية والسياسية الاكثر تقدما وهو لم يكتشف هذا التجاوز الا في مرحلة متأخرة، وبالتحديد، كما يعبر، بعد ان شاهد فلم "المخدوعون" الذي اخرجه توفيق صالح عن روايته المعروفة رجال في الشمس.  يقول غسان "وقد شاهدت الفيلم بمنظور جديد ان اكتشفت فجأة بأن الحوار بين الابطال وخط تفكيرهم وطبقتهم الاجتماعية وطموحاتهم وجذورهم في ذلك الحين، كانت تعبر عن مفاهيم متقدمة عن افكاري السياسية. اذن باستطاعتي القول بأن شخصيتي كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتي كسياسي، وليس العكس. في السياسة ، كان غسان يطمح الى مجابهة الواقع، اما في الرواية فقد كانت لديه اكثر من مجرد المجابهة، فمن خلالها عبر عن الواقع وتسرب منه الى الماضي ليوقظه ويحييه.. ومن ثم جابه الحاضر الرواتي كما يرى غسان كنفاني هو كل هذه المعالم مجتمعة انه يعبر عن الواقع، ويهرب الى الماضي ويجابه الحاضر.

الكاتب : داود إبراهيم

يمثل غسان كنفاني نموذجا خاصا للكاتب السياسي والروائي والقاص والناقد، كتب القصة القصيرة، ورسم اللوحة الفنية كما كتب المقالة السياسية والرواية وكتب دراسات ادبية متميزة، وكان مبدعا في كل كتاباته، كما كان مبدعا في حياته ونضاله واستشهاده.

وقد نال عام ١٩٦٦ جائزة اصدقاء الكتاب في لبنان" لافضل رواية، وذلك عن روايته "ما تبقى لكم"، كما نال جائزة منظمة الصحفيين العالمية عام ١٩٧٤ ونال جائزة اللوتس التي يمنحها اتحاد كتاب اسيا وافريقيا عام ١٩٧٥.

وقد ترجمت روايته "رجال في الشمس" الى الانجليزية والفرنسية والهولندية والالمانية والهنغارية والنرويجية والسويدية والتشيكية، كما حولت الى فيلم سينمائي اخرجه المخرج المصري الجاد "توفيق صالح" بعنوان "المخدوعون" وقد فاز هذا الفيلم بعدد من الجوائز منها جائزة مهرجان قرطاج في تونس وجائزة مهرجان الافلام الكاثوليكية في باريس، وجائزة افلام حقوق الانسان في ستراسبورغ.

كما ترجمت روايته المعروفة عائد الى حيفا" الى اليابنية وكل ذلك وغيره يدلك على ان غسان كان اديبا وكاتبا وفنانا من نوع متميز لقد استطاع غسان بنفاذ بصيرته وبوعي الفنان الفنان الصادق ان يلمس جذور المشكلة المتمثلة في المأساة الفلسطينية التي كان يعيشها حتى العظام، وجعله وعيه يدرك الى جانب من عليه يقف، وعن اية قضية عليه ان يدافع ويكرس حياته لعد ختار غسان أن يقف الى جانب الفقراء وسكان المخيمات من ابناء شعبه. ومن يقرأ قصص غسان ورواياته يدرك دون عناء ان اشخاصه من ابناء الشعب البسطاء، وكثير منهم اطفال او شبان يعملون بدافع من صدق الفطرة، دون ان يبلغوا سن الحكمة وليس فيهم من يحاول ان يفلسف الدور الذي يؤديه او الغاية التي يسعى اليها.

يقول غسان كنفاني عن تجربته القصصية "ان كل قصة كتبتها ترتبط بطريقة مباشرة او غير مباشرة وبخيط دقيق او متين من تجاربي الشخصية في الحياة.. ويقول في موضع آخر "عندما اصور بؤس لفلسطينيين فانا في الحقيقة اشعر أن الفلسطيني كرمز للبؤس في العالم اجمع، او بامكانك القول بأن فلسطين تمثل العالم برمته في قصصي، ففي وسع الناقد الادبي ان يلاحظ بأن قصصي لا تتناول الفرد الفلسطيني ومشاكله فحسب بل تتناول حالة انسانية لانسان يقاسي من المشاكل اياها.

ولكن ربما كانت تلك المشاكل اكثر تبلورا في حياة الفلسطيني. ويقول غسان في نفس الحديث السابق اظن ان التأثير الأكبر على كتاباتي يرجع الى الواقع نفسه، ما اشاهده، تجارب اصدقائي وعائلتي واخواني وتلاميذي، تعايش في المخيمات مع الفقر والبؤس، هذه هي العوامل التي اثرت في لقد استوحيت كافة ابطال رواياتي من الواقع الذي كان يصدمني بقوة وليس من الخيال.

ويقول يوسف اردريس عن ادب غسان كنفاني في معرض تقديمه لاحدى قصصه : " الكتابة قضية، والكاتب انسان صاحب قضية يؤمن بها ويتبناها الى حد يحشد فيه كل ما يمتلك من حساسية لاستيعابها وكل ما يمتلك من قدرة للتعبير عن احساسه ذاك ليعبر عنها بألف لون ونوع من التعبير.

ويضيف يوسف ادريس قائلا : ان غسان اول كاتب في كل تاریخ ادبنا العربي يعيش قضية بلاده الى حد الشهادة. لقد كانت فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان، وموضوع رواياته وفعاليات قصصه القصيرة، وكانت ايضا موضوع حياته وموضوع موته.

ويقول احمد خليفة في دراسة له بعنوان "عالم القضية الفلسطينية في ادب غسان كنفاني ان عالم غسان كنفاني الفني الفلسطيني لم يكن طوال الوقت، ومنذ ان بدأ ببنيه لبنة لبنة حتى استشهاده عالما ساكنا. ان ثمة انقلابا كبيرا يحدث في هذا العالم مواز في الحقيقة للانقلاب الذي يحدث داخل عالم الشعب الفلسطيني ذاته على ارض الواقع، بحيث يمكن القول ان ادب غسان كان دائما المرآة الامينة التي عكست صورة وحركة الشعب الذي كان منه وله طوال حياته واستشهد في النهاية من اجله.

لقد كان غسان كنفاني واحدا من الذين أثروا النضال الفلسطيني بالادب المقاتل، ورووا الثرى بدماء سخية، وترجموا الالتزام الى فعل حقيقي وحولوا المقولات والنظريات الى ممارسات وافعال على ارض الواقع الملموس ، حولوا الكلمات الى معايشة حقيقية نابضة، لقد كتب القصة والمسرحية والمقالة الادبية والسياسية والنقدية، وحين حمل الفرشاة ليرسم عاد من جديد يجسد بوس المآساة وحلم العودة، ولكنه مع ذلك ظل ينظر الى الادب الفلسطيني في الداخل حيث الحصار والقمع والكبت، على انه الادب الحقيقي المعبر عن الالتزام الكامل بالارض. يقول غسان كنفاني في ذلك.

الادب لا يستطيع ان يكون نقيا، فحين يكون بعيدا عن ترابه يحمل معدنه الصدأ، ويظل بشكل غريب، وحين يجيء من تحت الارض والقهر ، يحمل في ثناياه صوت الارض الحقيقي يحمل زخات المطر، وصرير الابواب ولهات المحراث.

فالبرغم من انه مضى في ذروة الشباب، حيث انه لم يأخذ من عمر الزمن الاستة وثلاثين عاما، الا انه كان غزير الانتاج حيث ترك لتاريخ الادب الفلسطيني ارثا لم يصنعه غيره ممن احنى الدهر قاماتهم وهم قابضون على اقلامهم اكان هاجس الموت يطارده ام كان في مباراة مع الزمن ؟

تأتي الاجابة من شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي كان غسان كنفاني اول من قدمه لقراء العربية يقول محمود درويش : لم يكن غسان صبورا، فمن وصل ساحة الموت لا يتحلى بالصبر، ان شراهة الحياة تجعله كالعاصفة مندفعا ومتفجرا على الدوام.. لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها.. هذه مأساته.

كانت كافة كتاباته تعالج قضية شعبه الوطنية بشكل يدلل على خصوصية الحساسية اتجاه كل ماله علاقة بالوطن، وكان اول انتاج ادبي له عبارة عن قصة قصيرة بعنوان "شمس جديدة" نشرتها له مجلة الادب البيروتية، بالرغم من انه كتب قصة موت سرير" رقم ۱۲ قبل ذلك، ومن ثم تدفق انتاجه المتألق.

ويعلل غسان كنفاني اتجاهه الى القصة القصيرة وتركيزه عليها دون غيرها الى قراءاته المتأنية لعمالقة الفن القصصي من امثال تشيخوف وموباسان، وغوغول وآرنست همنجواي وشتاينبك، وكالدويل وفوكنر ،وتولستوي، وغيرهم. كما انه تأثر بوجه خاص بالكاتب الروسي "ديستوفيسكي".

يقول غسان كنفاني : انني بصورة ما، مدين لهؤلاء في الشعور العميق الذي ما ازال احمله في اعماقي بأن العالم لا يمكن فهمه الا من خلال الناس، والناس قصص.

كانت فلسطين بالنسبة لغسان كنفاني تمثل رؤية شمولية للعالم، يرى معاناة البشرية من خلالها، فهي النموذج الذي تقاس عليه تجارب الشعوب والشعب الذي يأخذ تجاربه من نماذج اخرى لكافة الشعوب.

والواقع ان هذا النضج الفني الرفيع الذي تتميز به معظم اعمال غسان كنفاني لم يكن ان يتم الا بعد ان اخذت التجربة مداها وتعمقت المأساة في نفسه ومشاعره طولا وعرضا وعمقا، فأضحت تجربته اكثر شمولا واكبر حجما واعمق جذورا.

دائما هاجس فلسطين يترك بصماته على كل كلمة يكتبها يرفدها بمداد قلمه كما رفدها بدمه.. لماذا؟ ويأتيك الجواب حادا وصريحا على لسان غسان نفسه:

ذلك لانني واحد من هذا الجيل الذي دفع غاليا ثمن الحصرم الذي ملأ امعاء قيادتنا، لان فلسطين بالنسبة لي هي المستقبل.

رؤية نقدية

ومن يستقرىء مقالات و دراسات غسان كنفاني الادبية يستطيع ان يلمح بوضوح رؤية نقدية واضحة المعالم لفهمه للادب ودوره ورسالته فهو يرى ان قيمة العمل الادبي تتوقف على درجه ارتباطه بالواقع الاجتماعي ولا يكفي الارتباط بهذا الواقع بأن يكون الكاتب مرآة تعكس الواقع كما هو،بل ينبغي عليه ان يغير ويعمق هذا الواقع، وان يقدم رؤية متفائلة لما يجب ان يكون عليه الواقع. ويكتسب العمل الادبي عموميته وانسانيته من خلال الخصائص المحلية التي يكشف عنها، وليس من خلال محاكاته للنماذج، ويجب الاخذ في الاعتبار عند دراستنا للأعمال الادبية، طبيعة الظروف التي تخلق فيها تلك الاعمال الادبية، على ان ما يصدق على الادب في ظل الاحتلال لا يصدق عليه بعيدا عن الاحتلال.

ومن المهم ان لا يغفل الكاتب او الفنان عن القوانين الضرورية للعمل الفني حتى يعبر عن افكاره السياسية بنجاح وباسلوب تعبيري بعيد عن الاسلوب الخطابي المباشر، فالرواية يجب ان تكون مترابطة الاحداث منطقية الوقائع، وكذلك الشعر يجب ان توضع مختلف صورة ، ورموزه في وحدة عضوية متماسكة.

لقد كان غسان كنفاني باحساسه المرهف، وطاقاته الفنية الفذة اسبق من غيره لمعرفة الطريق الى الخلاص، وكان غسان متقدما على طبقته البرجوازية الصغيرة، واكثر ثورية منها.. بفضل هذا الاحساس المرهف، وذلك البعد الانساني العميق، لم یکن غسان اديبا فحسب بل كان ناقدا فنيا عميقا فقد كان اول من اطلع العالم العربي على ادب المقاومة في الارض المحتلة كما انه كان أول من اطلع القارىء العربي على "الادب الصهيوني".

اضف الى كل ذلك فان غسان كنفاني كان رساما موهوبا وصحفيا متميزا وسياسيا فذا له طاقات عظمى على الفعل والتأثير.

ولكن، ومهما اختلفت اداة الفعل والتأثير التي حملها وسواء اكانت الريشة او القلم او البندقية فان ما كان يميزه هو انتماؤه الأصيل والعميق للانسان والقضية.. انسان القضية وقضية الانسان.

غسان بين السياسة والفن

المتأمل في نتاج غسان الادبي لا بد ان يلاحظ تطور الوعي السياسي لديه كما يعكسه ذلك الانتاج الادبي، فهو يفصح عن ذاته بلا مراوغة باحثا عن ايسر السبل للتواصل مع جمهور عريض، مضحيا ببعض التنازلات على صعيد البناء الفني، ومتراجعا عن النقطة التي وصل اليها ككاتب في روايتيه الاولى والثانية.. أي رجال في الشمس، وما تبقى لكم تراجعا واضحا في الناحيتين التقنية والتجريبية.

 لقد شهدت السنوات الاخيرة من حياة الكاتب تحولا جذريا في معتقداته وقناعاته السياسية والايديولوجية، ولكن غسان كنفاني روائيا لم يكن مشروطا بهذه الارتباطات العقائدية وهو  يخلق فنه الروائي، اذ انه تجاوز بهذا الفن المرتكزات الايديولوجية التي كانت تحركه في ممارساته السياسية، واعتنق بوعي او بدون وعي نقيضها الفكري قبل سنوات من تعبیره السياسي عن اقتناع الفكر الجديد لقد سبق غسان كنفاني - ككاتب روائي ذاته كمناضل سياسي الى المواقع الفكرية والسياسية الاكثر تقدما وهو لم يكتشف هذا التجاوز الا في مرحلة متأخرة، وبالتحديد، كما يعبر، بعد ان شاهد فلم "المخدوعون" الذي اخرجه توفيق صالح عن روايته المعروفة رجال في الشمس.

يقول غسان

"وقد شاهدت الفيلم بمنظور جديد ان اكتشفت فجأة بأن الحوار بين الابطال وخط تفكيرهم وطبقتهم الاجتماعية وطموحاتهم وجذورهم في ذلك الحين، كانت تعبر عن مفاهيم متقدمة عن افكاري السياسية. اذن باستطاعتي القول بأن شخصيتي كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتي كسياسي، وليس العكس.

في السياسة ، كان غسان يطمح الى مجابهة الواقع، اما في الرواية فقد كانت لديه اكثر من مجرد المجابهة، فمن خلالها عبر عن الواقع وتسرب منه الى الماضي ليوقظه ويحييه.. ومن ثم جابه الحاضر الرواتي كما يرى غسان كنفاني هو كل هذه المعالم مجتمعة انه يعبر عن الواقع، ويهرب الى الماضي ويجابه الحاضر.

تابعوا الأجزء الأخرى من كتاب " غسان كنفاني مناضلا ومفكراً " حياته - فكره وأدبه - نضاله وإستشهاده

الجزء الأول

الجزء الثاني 

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الجزء الخامس

الجزء السادس 



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-