غسان كنفاني مناضلاً ومفكراً ( الجزء الثالث )

الكاتب داود إبراهيم في اعقاب رحيل غسان كنفاني، في اليوم الثامن من تموز عام 1972م كتب شاعرنا الكبير محمود درويش يقول: لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة، ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها.. هذه هي مأساته. وقال الرواتي الفلسطيني المبدع يحيى يخلف كان غسان كنفاني طائرامن طيور الاغصان العالية التي تجد عشا لها فوق ذوائب الاشجار فتصبح فلسطين مدى واسعا، وافقا واسعا يحتضن هذا الطائر الاخضر.  وكتب الاستاذ المفكر احمد بهاء الدين يقول: كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم... ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب العنيف... وقد سكنت روحه قضية بلاده فلسطين.  اما يوسف ادريس القصاص والاديب المصري المعروف فقد كتب يقول: ومن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين.  ويقول فاروق وادي عن غسان كنفاني ما نصه: "في ممارسته الابداعية الروائية بشكل خاص اختزل غسان زمنين زمن الاوهام، وزمن الحقائق انه العاشق الجديد، وشهيد المرحلة الجديدة التي ترفض ان يختنق ابطالها بين جدران الخزان. ظاهرة نضالية وهكذا يجمع اهل الرأي والعلم على ان غسان كنفاني كان ظاهرة نضالية متميزة ذلك انه كرس موهبته الروائية الاصيلة لخدمة قضية بلاده. ولكي نكون على ثقة كاملة من ذلك دعنا نستعرض بعض مقولات غسان كنفاني فهي تشكل اضاءة كاشفة على عنصر النضال في ادب وفكر غسان كنفاني يقول غسان كنفاني: هناك رجال ينبتون الان في ارض المسؤولية كما ينبت الشجر في الارض الطيبة، حريصون على اعادة المجد للكلمة ملتزمون حتى ارواحهم بالوعود التي تعطيها تلك الكلمة. وعن الادب والقهر يقول:  "لا يستطيع الادب ان يكون منفيا، فحين يكون بعيدا عن ترابه يحمل معه رنة الصدأ ويظل بشكل ما غريبا حتى يجيء من تحت الارض والقهر وهو يحمل في ثناياه صوت الارض الحقيقي. يحمل زخات المطر، وصرير الابواب ، ولهات المحراث ومن اقوال غسان في هذا المجال: انني واحد من هذا الجيل الذي دفع غاليا ثمن الحصرم الذي ملأ امعاء قياداتنا"  وعن رؤيته النضالية يقول: ان كتف الرجل لم تخلق الا ليعلق عليها البندقية، وان فلسطين تحتل العالم برمته في قصصي، صحافة ... الكلمة المقاتلة ويقول: نحن نشعر بتفاؤل استراتيجي تاريخي، في الماضي كان تفاؤلنا نوعا من الرهان على قضايا ليست بيدينا، كانت نشرة الاخبار تبعث فينا حس التفاؤل او التشاؤم. الان نعرف ماذا ستقول نشرة الاخبار بشكل مسبق وعن الصحافة يقول: هناك صحافة جديدة تفرض، صحافة الكلمة المقاتلة التي تلزم قائلها بمسؤولية انزالها من غيوم الثرثرة المرتجلة من الغيب الى ارض البشر التواقين الى ما هو افضل واكثر انسانية.  ثم يقول في سياق آخر بالكتا پخته لنزرعهم شهداءنا في لحم هذا الوطن المثخن بالتزيف فدائما يوجد في الارض متسع لشهيد آخر. ويقول: حين يموت الرجل، انما يسقط على اكتاف الذين لم يموتوا بعد. وعن فلسطين يقول: وكانت فلسطين كلمة ذات صوت مملوءة بنداء مقدس. صارخ.. تجوب الارض كأرملة لم تأخذ بثأر رجلها.. تحمله على كتفها وتصطبغ معه بالدم الذي لا ينقطع. فلسطين.. مفتاح شخصيته هذه اقوال متفرقة قالها الكاتب الفنان المناضل غسان كنفاني... في مناسبات مختلفة.. وعندما نضمها بعضها الى بعض محاولين استقراء ما فيها من افكار ومواقف عندما نفعل ذلك انفسنا امام مفتاح شخصية غسان كنفاني، اذا جاز لنا ان نستعير اسلوب الاستاذ عباس محمود العقاد في فهم العظماء. الالتزام الكامل بقضيه الوطن.. تلك الشعلة المقدسة التي كانت تنير الطريق امام غسان كنفاني... او قل هذا هو الهدف العظيم الذي كان يسكن غسان كنفاني ويحتل عليه اقطار نفسه ويوجه سلوكه وتصرفاته وينطق رئتيه ولسانه وقلمه.. فقد عاش غسان كنفاني كل حياته من اجل فلسطين.. فكل ما انتجه... كان فنا نابضا بالدفاع عن هذه القضية. والدارس المستقرىء لنتاجه الفني سواء اكان لوحة فنية او قصة او مسرحية او رواية لا يجد في كل ذلك غير تراب فلسطين، وهموم فلسطين، وجراح فلسطين وحلم فلسطين.. و دموعها وابتساماتها، ويكفي ان نلقي نظرة على قائمة انتاج غسان كنفاني لنكون على بينة من ذلك.  "فهناك" موت سرير رقم 12 وارض البرتقال الحزين" "ورجال في الشمس"" والباب "" وعالم ليس لنا" وعن "الرجال والبنادق" "وام سعد" " وعائد الى حيفا" "والقبعة والنبي" "وجسر الى الابد" "وادب المقاومة في فلسطين المحتلة والادب" الصهيوني" "وثورة 1936 في فلسطين" وغيرها. قضية الوطن معجونة بحبر قلمه ان استقراء هذا النتاج يدلك على مدى ارتباط غسان بقضية وطنه، فهو لم يكتب قصصا رومانسية خيالية مثلا ولم يهدف مطلقا الى التسلية وقتل الوقت، ولا كان هدفه مطلقا امتاع القارىء او الترفيه عنه.. لقد كرس كل مواهبه للادب الجاد الذي يلقي في وجدان القارىء ببذور الثورة، ويوقظ في حسه ومشاعره كل احاسيس النضال والالتزام وكانت قضية الوطن معجونة بحبر قلمه، وهو حبر يستقيه غسان من دمه وسواء حمل القلم او البندقية او الريشة فكلها بالنسبة له مجرد ادوات للدفاع عن القضية.  وربما كان الاستثناء الوحيد لهذه الظاهرة هو روايته "من قتل ليلى الحايك" والتي نشرتها له مسلسلة مجنة الحوادث اللبنانية فهي تقوم على حبكة بوليسية وتزدحم بكل عناصر الاثارة البوليسية التقليدية ولكن هذه الرواية لا تشكل اتجاها بطبيعة الحال، وهي في اصدق الاحوال الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. أدوات ادافع بها عن نفسي في عام 1969 سال احد الاصدقاء غسان كنفاني -وقد رآه يحمل سلاحا. يا غسان، لقد رأيتك تحمل ريشة، ثم قلما، والان اراك تحمل السلاح.. فما هو السبب؟ فأجابه غسان - ان الريشة والقلم والسلاح، جميعها ادوات ادافع بها عن نفسي والحقيقة ان ظاهرة الالتحام بالقضية تكاد تستغرق معظم نتاج ادباء وكتاب فلسطين فلم يكن ذلك مقصورا على غسان كنفاني وحده لان التجديف بعيدا عن تيار الوطن غير متوقع وغير مفهوم، وغير مقبول، من ادباء يتمزق وطنهم اشلاء منذ نصف قرن او اكثر ، غير أن ظاهرة النضال من اجل فلسطين تتبدى كظاهرة كاسحة في تراث غسان كنفاني... ولا اخالني ابالغ عندما اقول ان التطابق يكاد يكون تاما في حالة غسان كنفاني.. فأدبه وحياته ونتاجه، بل ان كل لحظة من لحظات حياته كانت مكرسة لوطنه... ولا يقوم شاهدا على ذلك خير من حادثه اغتياله الدموية التي جاءت لتؤكد هذه الحقيقة الناطقة. الانسان قضية ان غسان وقضية التراب الفلسيني متمازجان الى حد الذوبان الفيزيائي أو الالتحام الكيمائي. ففي روايته عائد" الى "حيفا" يؤكد غسان ان الانسان قضية وموقف وانتماء فهو يقول: "الانسان قضية.. ما معنى الوطن ..؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة ريش الطاووس؟ صورة القدس المعلقة على الجدران؟ وفي مجموعة ارض البرتقال الحزين يؤكد غسان كنفاني: "ان الحياة لا قيمة لها قط، ان لم تكن دائما واقفا قبالة الموت". ويقول: "انا لست منحدرا من صلب دولة تسأل بين الفينة والفينة عن رعاياها انا ممنوع من حق الاحتجاج ومن حق الصراخ.  وفي مجموعته القصصية عالم ليس لنا يقول: لم تستطع العلاقات الواسعة تلك ان تدخل الى حياتنا الا شيئا بسيطا وتافها من النكهة والمذاق، وسنة بعد سنة اعتدنا ذلك النوع من الحياة، واعتدنا خشونة العلاقات ورضيناها ثمنا للعلاقة نفسها.  وكانت اغلى شيء يمكن للمرء ان يحصل عليه في ذلك المنفى. رجال في الشمس وفي رواية رجال في "الشمس" يترسم خطى ثلاثة رجال من فلسطين كانوا في رحلة الفرار الجهنمية من صقيع المنفى الى لظى الصحراء الممتدة بين البصرة والكويت ينقلهم في الرحلة فلسطيني آخر، عاجز، فقد رجولته في حرب فلسطين... مهربين في سيارة صهريج ماء فارغ نحو بديلهم المكاني الوهمي عن الارض طمعا في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي المفقود. لكر البديل في النهاية لم يكن الا الموت الموت اختناقا في الصهريج وبسواعد اعجر من ان تدق جدران خزان الماء الذي يحتويهم هاربين يخنقهم هاربين تجد جثثهم نهايتها ومصيرها في ركام مزبلة صحراوية لا تسمع النداء الذي اصبحت تردده.  رحلة فرار اخرى وفي روايته ما تبقى لكم .. رحلة فرار اخرى للفلسطيني، عبر الصحراء تنتهي برصاصات المجابهة، ففي الصحراء الفلسطينية المحتلة يهرب حامد خجلا من عاره، بعد ان حملت اخته من رجل حقير وخائن كان قد تزوجها بلا ثمن انه يقطع صحراء يستولي عليها الاعداء قاصدا الضفة الغربية بحثا عن امه.. ملاذه الوهمي، والتي كان غيابها سببا في كارثة عاره. لكن الصحراء التي كانت هناك، في الرواية الاولى موتا وقبراء تصبح هنا ارضا للمجابهة، فالبطل الهارب يلتقي عدوه فوق رمال الصحراء يصطدمان وجها لوجه، خنجرا وبندقية، وفي لحظة متوحدة رغم البعد المكاني، ينغرس خنجر الاخت في جسد زوجها ويلتمع نصل خنجر حامد في وجه عدوه  عائد إلى حيفا وفي روايته عائد الى حيفا... تغيب الشخصية المحورية هنا لتستند الرواية على الحدث، لكن الاحداث تعود لتترك مكانها لهيمنة الحوار الذهني المباشر.. والحدث في الرواية محدد زمنيا وهو يتواصل مع احداث تاريخية في حيفا التي غادروها قبل عشرين عاما. بعد ان اتاح لهم الاحتلال الجديد عام ١٩٦٧ فرصة زيارة، باحثين عن طفلهم الذي خلفوه وراءهم في ذلك البيت، عند سقوط المدينة قبل تلك السنوات الطويلة، ليفاجأ بان الطفل الذي خلفوه قد اصبح ضابطا في الجيش الاسرائيلي ومدافعا عن الصهيونية والاحتلال لكنهم يجدون عزاءهم في ابنهم الآخر الذي يطمح الى الالتحاق بحركة المقاومة. إعادة مجد الكلمة وفي رواية العاشق... يرتد غسان كنفاني الى التاريخ الفلسطيني في سنوات الاحتلال البريطاني ليرصد ملامح البطل الفلسطيني الملحمي في التاريخ الغريب. انسان يتنكر لاسمه، ثم يعود ليتنكر لاسمه الجديد، محاولا الاختفاء عن اعين السلطات.. متخذا من الجياد رفاقا له في لحظة هربه ولحظة المجابهة، لكنه يسقط اخيرا بين يدي عدوه، وعند سقوطه تنتصب الذاكرة لتعيد تشكيل تاريخه في عنصري تكوينه.. مجابهة واختفاء.. واختفاء ومجابهة. وهكذا يتأكد بصورة واضحة ان غسان كنفاني كان كاتبا قضيته، وكان يتعاطى فلسطين في كل ما يكتب، وكان بحجم يعايشها الى درجة التفاني والفناء فيها فكأنه كان هو القضية، وكأن القضية كانت هي غسان كانت فلسطين هاجسه الدائم، وهمه اليومي، وفرحه الازلي.. وعن قدره النضالي ككاتب يقول: "هنالك رجال ينبتون الان في ارض المسؤولية كما ينبت الشجر في الارض الطيبة، حريصون على اعادة المجد للكلمة . ملتزمون حتى ارواحهم بالوعود التي تعطيها تلك الكلمة".  ويؤكد الكاتب الفلسطيني جمال بنورة ان غسان كنفاني كاتب عاش القضية الفلسطينية.. وكتب عنها، ومات في سبيلها وقد كان متفائلا دائما، ولم يداخله الشك في ان النصر سيكون حليف الشعوب وقضاياها العادلة. في احد احاديثه الصحفية سئل غسان كنفاني ما اذا كان متفائلا فأجاب ما نصه: "انا متفائل الان لا لاني اطمئن للمستقبل، ولكن لاني افهم الماضي فهما موضوعيا. فلولا نضال الاحزاب الوطنية لما كانت المقاومة، فالمقاومة خطوة متقدمة للنضال الماضي.  انا متفائل لاني على استعداد لان اموت غداء دون ان اكون نادما على شيء، ودون ان اعتذر عن شيء في كل حياتي. وقبل استشهاده بفترة وجيزة سأله مراسل غربي : هل يعني الموت شيئا بالنسبة لك ؟ فاجاب: بالطبع الموت يعني الكثير. الشيء المهم ان تعرف لماذا التضحية بالنفس في خضم العمل الثوري. انه التعبير عن اسمى فهم للحياة فالنضال وحده هو الذي يجعل الحياة جديرة بانسان. كان غسان طافة متفجرة من العمل الثوري الذي لا يكل ولا يهن او يضعف، وحتى في اثناء مرضه كان يقول: "ان اقوى شكل يأخذه المرض هو عندما يسبب الموت، وهذا يحدث مع الانسان مرة واحدة... ولذلك ما دمت لست ميتا فسأتصرف وكأني لست مريضا.  بين الصحافة والفنون المال ومن المعروف ان غسان كان ينكب على العمل الصحفي اليومي، والصحافة كما يعرف الجميع اخطبوط يلتهم كل طاقات العاملين فيها، وبالتالي فهي قادرة دائما على امتصاص طاقات الفنان الادبية والابداعية بحيث لا نترك من الفنان الا بقايا. وقد حذر عدد من الاصدقاء غسان من غول الصحافة وطغيانها الكاسح. ولكنه رد على هذا المنطق بالمقولة التالية: انا لا افهم هذا المنطق، فهذا يشبه ماكنت اسمعه في المدرسة عندما كان يقال لي : اترك السياسة واهتم بدروسك، ومثل ذلك النصائح التي سمعتها بعد ذلك في الكويت حيث كان يقال لي: اترك الكتابة واهتم بصحتك..  ويتساءل غسان هل حقا عندي خيار في ذلك، ان الاختيار الذي يتحدثون عنه ليس له وجود فلا استطيع ان اكون غير ما اناء انا اريد ان اقول شيئا، احيانا اقوله بكتابة الخبر الرئيسي في صحيفة "الغد" واحيانا بصياغة الافتتاحية، واحيانا لا استطيع ان اقول ما اريد الا بقصة. وفي رسالته الاخيرة كتب غسان كنفاني يقول: المرض يشتد على واشعر دائما بالاعياء والتعب، ولكني لا اذهب الى الفراش، هناك احساس خفي لدى بأن الذين يقعدون لن يقوموا ابدا.  لقد كان غسان كنفاني في سباق رهيب مع الموت. ومن الراحج ان الموت لم ينل منه الا بعد ان حقق قدرا عظيما من رسالته كمناضل. وكما يراه احمد بهاء الدين كتب الاستاذ احمد بهاء الدين يصف صديقه الحميم غسان كنفاني.. كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم.. ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة.. ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب ..العنيف.. وقد سكنت روحه قضية بلاده "فلسطين". ولانعدام المسافة عنده بين لعقل والعمل.. فقد كان واهبا حياته للعمل الفعلي من اجل القضية غير مكتف باستخدام سلاح قلمه الاخاذ كان من اولئك القليلين الذين عرفتهم والذين لا يمكن وصفهم الا بأنهم يقطرون فناكان كاتبا سياسيا يوميا، لمع بسرعة، وصارت الصحف تتخطفه.  وكان كاتب قصص قصيرة، وروايات، ومسرحيات وكان يرسم لوحات بديعة.. وكان حتى كلامه وطريقته في الحديث كأنها أعمال فنية ولها مذاق الفن. وكان مغرما غراما خاصا بالاطفال.. يحكي لاطفاله او لاطفالي اطفال احمد بهاء الدين اذا جاء الى القاهرة حكايات خلابه يرتجلها لهم من وحي الساعة..  وكان يرسم لهم لوحات يتخاطفونها ويعلقونها على الجدران في حجراتهم. وكان احساسي "يقول احمد بهاء الدين" انه يمكن ان يكون له في العمل السياسي بديل؟، ولكن ليس سهلا ان يكون له في الفن والادب بديل.  ويواصل احمد بهاء الدين... حديثه عن صديقه الحميم فيقول: كنت أؤمن حقا بأن في اهاب هذا الشاب الذي يعمل ويرسم ويناضل وينتج، ويضحك أربعا وعشرين ساعة في اليوم موهبة فنية من النوع النادر جدا.  وما زلت اعتقد انه لو كتبت له الحياة لصار ظاهرة فنية وأدبية. ويعلل احمد بهاء الدين اندفاع غسان الى نهر الحياة يعب منه عبا فيقول: لقد كان مريضا بالسكر.. منذ كان فوق العشرين بقليل، وكان يعيش بحقنة الانسولين اليومية التي تعلم ان يعطيها لنفسه كل صباح.. هل كان لذلك كالمصباح المتوهج المتقد اربعا وعشرين ساعة في اليوم لا يخفت ولا تنطفىء جذوته ابدا..  وكما يراه يوسف ادریس وفي معرض تقديمه لاعمال غسان كنفاني الكاملة، كتب يوسف ادريس عملاق القصة القصيرة في الادب العربي المعاصر يقول: لم أحس بفخر ابدا اني اكتب القصة القصيرة، لا شيء من ذلك برأيي كان يدعو الى الفخر، ولكن الفخر اني كاتب قصة قصيرة احسسته مرتين في حياتي.  والغريب ان المرتين كانتا تتعلقان بغسان كنفاني. الاولى حين استشهد على تلك الصورة المروعة وكان استشهاده نهاية القمة لحياة كاتب يمت الى هذا العصر، والى هذا الشعب والى قضية مثل قضيته.  ويقول يوسف ادريس ان قيمة الكاتب الفنية تستمد كمها وكيفها من القضية، بمقدار صدقه تكون قيمته بمقدار دأبه الملح على الصدق وسبر اغوار الحقائق للوصول الى حقيقة الحقائق بمقدار عمق الايمان يكون عمق الموهبة. الاصالة هي من اصالة قضيتك والعبقرية هي ان تصل بأيمانك وتعبيرك عن هذا الايمان حدا لا يصله غيرك.  لن تجد عبقريا واحدا الا وهو مؤمن ومهووس الايمان بقضية الى حد يعجز. احسست لاول مرة في حياتي بفخر اني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني. فحين انتهت حياته هكذا انتقل من خيز الكتاب الى حيز الابطال وكان اول كاتب قصة يفعل هذا بل كان اول كاتب في تاريخ ادبنا العربي يعيش قضيته الى حد الشهادة.  والمرة الثانية، حين تفضل الاصدقاء وعهدوا ال بكتابة تقديم لقصص غسان كنفاني، فمن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين من انا؟ وماذا فعلت للقضية كي اقدم كاتبا فعل من اجلها ما أصبح في عداد الاساطير. وعندما اخذت اقرأ غسان.. لم احاول ان اكون موضوعيا، فما معنى ان نكون موضوعيا هنا؟  وهل من الممكن ان تضبط انفعالك بحيث تقرأ قصة لغسان بعد مصرعه بنفس الاهتمام، والانفعال اللذين تقرأ بهما قصة لفلان وقد كتبها من مكتب وثير فاخر. ان كل كلمة هنا، ليست مجرد كلمة مأخوذة من لغة انها كلمة ذات ثمن كلمة لهارصيد اغلى انواع الرصيد، حياة كاتبها ان الجمل التي جاءت على لسان "جيفارا" في مذكراته لا تختلف من الناحية الموضوعية كثيرا عن الجمل التي يتشدق بها الثوار في كل مكان، ولكن جمل جيفارا ستخلد وستبقى لانها جمل من دم ولحم وحياة اذا كانت تشبه غيرها فحياة جيفارا ومصرعه هي التي تضع ذلك الفارق الهائل المميز.  ومن هنا ايضا نجد الفارق. ثمة شيء لا بد قد حدث لقصص غسان كنفاني باستشهاده كانت كلاما فأصبحت صدقا، كانت تحيا معنا على الارض فارتفعت الى السماء، كانت تماثيل يضمها مخزن فوضعت كل منها فوق اعلى قاعدة التمثال ان الشهيد لا يخلد وحده باستشهاده كلماته ايضا تستشهد معه وباستشهادها تستحيل من كلمات ذات حياة موقوته فانية الى كلمات حية على الدوام، صادقة على الدوام، مضيئة بمزيج اسطوري من النبل والسحر وجلال الانبياء.  لقد كانت فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان وموضوع رواياته ومقالاته وقصصه القصيرة، كانت ايضا موضوع حياته وموضوع موته. وهنا تكمن عبقرية غسان، هذا الاخلاص الكامل للقضية مع الصدق الكامل لهذا الاخلاص جعله يستطيع ان يكتب كل هذه الاعمال، ومعظمها فنية دون ان يكرر نفسه مرة، أو يتحدث عن الشيء الواحد مرتين، بل لا اريد ان ابالغ واقول ان موضوعه الواحد لم يكن فلسطين كلها دائما، كان شريحة واحدة من القضية هي موقف الفلسطيني من قضية فلسطين اي اعجاز.  لقد كنت احيانا اضع الكتاب جانبا وأتأمل عمق احساس هذا الانسان بقضيته وشعبه، ايمكن ان تبلغ الحساسية هذه الدرجات القصوى من الرهافة والدقة انه شيء لا يمكن ان يحدث الا اذا كان الكاتب يحيا ويؤمن باطراف انامله بلحظات حبه، بنوبات اكتئابه بالدمعة اذا ذرفها باطراف اطراف فراشه

الكاتب داود إبراهيم

في اعقاب رحيل غسان كنفاني، في اليوم الثامن من تموز عام 1972م كتب شاعرنا الكبير محمود درويش يقول: لقد اختار الموت المبدع تعبيرا مأساويا حتميا عن انتمائه الى الحياة، ولكنه لم يتمكن من اختيار الارض التي يموت فيها.. هذه هي مأساته.

وقال الرواتي الفلسطيني المبدع يحيى يخلف كان غسان كنفاني طائرامن طيور الاغصان العالية التي تجد عشا لها فوق ذوائب الاشجار فتصبح فلسطين مدى واسعا، وافقا واسعا يحتضن هذا الطائر الاخضر.

وكتب الاستاذ المفكر احمد بهاء الدين يقول: كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم... ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب العنيف... وقد سكنت روحه قضية بلاده فلسطين.

اما يوسف ادريس القصاص والاديب المصري المعروف فقد كتب يقول: ومن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين.

ويقول فاروق وادي عن غسان كنفاني ما نصه: "في ممارسته الابداعية الروائية بشكل خاص اختزل غسان زمنين زمن الاوهام، وزمن الحقائق انه العاشق الجديد، وشهيد المرحلة الجديدة التي ترفض ان يختنق ابطالها بين جدران الخزان.

ظاهرة نضالية

وهكذا يجمع اهل الرأي والعلم على ان غسان كنفاني كان ظاهرة نضالية متميزة ذلك انه كرس موهبته الروائية الاصيلة لخدمة قضية بلاده. ولكي نكون على ثقة كاملة من ذلك دعنا نستعرض بعض مقولات غسان كنفاني فهي تشكل اضاءة كاشفة على عنصر النضال في ادب وفكر غسان كنفاني يقول غسان كنفاني:

هناك رجال ينبتون الان في ارض المسؤولية كما ينبت الشجر في الارض الطيبة، حريصون على اعادة المجد للكلمة ملتزمون حتى ارواحهم بالوعود التي تعطيها تلك الكلمة. وعن الادب والقهر يقول:

"لا يستطيع الادب ان يكون منفيا، فحين يكون بعيدا عن ترابه يحمل معه رنة الصدأ ويظل بشكل ما غريبا حتى يجيء من تحت الارض والقهر وهو يحمل في ثناياه صوت الارض الحقيقي. يحمل زخات المطر، وصرير الابواب ، ولهات المحراث ومن اقوال غسان في هذا المجال: انني واحد من هذا الجيل الذي دفع غاليا ثمن الحصرم الذي ملأ امعاء قياداتنا"

وعن رؤيته النضالية يقول: ان كتف الرجل لم تخلق الا ليعلق عليها البندقية، وان فلسطين تحتل العالم برمته في قصصي،

صحافة ... الكلمة المقاتلة

ويقول: نحن نشعر بتفاؤل استراتيجي تاريخي، في الماضي كان تفاؤلنا نوعا من الرهان على قضايا ليست بيدينا، كانت نشرة الاخبار تبعث فينا حس التفاؤل او التشاؤم. الان نعرف ماذا ستقول نشرة الاخبار بشكل مسبق وعن الصحافة يقول: هناك صحافة جديدة تفرض، صحافة الكلمة المقاتلة التي تلزم قائلها بمسؤولية انزالها من غيوم الثرثرة المرتجلة من الغيب الى ارض البشر التواقين الى ما هو افضل واكثر انسانية.

ثم يقول في سياق آخر بالكتا پخته لنزرعهم شهداءنا في لحم هذا الوطن المثخن بالتزيف فدائما يوجد في الارض متسع لشهيد آخر. ويقول: حين يموت الرجل، انما يسقط على اكتاف الذين لم يموتوا بعد. وعن فلسطين يقول: وكانت فلسطين كلمة ذات صوت مملوءة بنداء مقدس. صارخ.. تجوب الارض كأرملة لم تأخذ بثأر رجلها.. تحمله على كتفها وتصطبغ معه بالدم الذي لا ينقطع.

فلسطين.. مفتاح شخصيته

هذه اقوال متفرقة قالها الكاتب الفنان المناضل غسان كنفاني... في مناسبات مختلفة.. وعندما نضمها بعضها الى بعض محاولين استقراء ما فيها من افكار ومواقف عندما نفعل ذلك انفسنا امام مفتاح شخصية غسان كنفاني، اذا جاز لنا ان نستعير اسلوب الاستاذ عباس محمود العقاد في فهم العظماء.

الالتزام الكامل بقضيه الوطن.. تلك الشعلة المقدسة التي كانت تنير الطريق امام غسان كنفاني... او قل هذا هو الهدف العظيم الذي كان يسكن غسان كنفاني ويحتل عليه اقطار نفسه ويوجه سلوكه وتصرفاته وينطق رئتيه ولسانه وقلمه.. فقد عاش غسان كنفاني كل حياته من اجل فلسطين.. فكل ما انتجه... كان فنا نابضا بالدفاع عن هذه القضية. والدارس المستقرىء لنتاجه الفني سواء اكان لوحة فنية او قصة او مسرحية او رواية لا يجد في كل ذلك غير تراب فلسطين، وهموم فلسطين، وجراح فلسطين وحلم فلسطين.. و دموعها وابتساماتها، ويكفي ان نلقي نظرة على قائمة انتاج غسان كنفاني لنكون على بينة من ذلك.

"فهناك"
موت سرير رقم 12 وارض البرتقال الحزين" "ورجال في الشمس"" والباب "" وعالم ليس لنا" وعن "الرجال والبنادق" "وام سعد" " وعائد الى حيفا" "والقبعة والنبي" "وجسر الى الابد" "وادب المقاومة في فلسطين المحتلة والادب" الصهيوني" "وثورة 1936 في فلسطين" وغيرها.

قضية الوطن معجونة بحبر قلمه

ان استقراء هذا النتاج يدلك على مدى ارتباط غسان بقضية وطنه، فهو لم يكتب قصصا رومانسية خيالية مثلا ولم يهدف مطلقا الى التسلية وقتل الوقت، ولا كان هدفه مطلقا امتاع القارىء او الترفيه عنه.. لقد كرس كل مواهبه للادب الجاد الذي يلقي في وجدان القارىء ببذور الثورة، ويوقظ في حسه ومشاعره كل احاسيس النضال والالتزام

وكانت قضية الوطن معجونة بحبر قلمه، وهو حبر يستقيه غسان من دمه وسواء حمل القلم او البندقية او الريشة فكلها بالنسبة له مجرد ادوات للدفاع عن القضية.

وربما كان الاستثناء الوحيد لهذه الظاهرة هو روايته "من قتل ليلى الحايك" والتي نشرتها له مسلسلة مجنة الحوادث اللبنانية فهي تقوم على حبكة بوليسية وتزدحم بكل عناصر الاثارة البوليسية التقليدية ولكن هذه الرواية لا تشكل اتجاها بطبيعة الحال، وهي في اصدق الاحوال الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

أدوات ادافع بها عن نفسي

في عام 1969 سال احد الاصدقاء غسان كنفاني -وقد رآه يحمل سلاحا. يا غسان، لقد رأيتك تحمل ريشة، ثم قلما، والان اراك تحمل السلاح.. فما هو السبب؟
فأجابه غسان - ان الريشة والقلم والسلاح، جميعها ادوات ادافع بها عن نفسي والحقيقة ان ظاهرة الالتحام بالقضية تكاد تستغرق معظم نتاج ادباء وكتاب فلسطين فلم يكن ذلك مقصورا على غسان كنفاني وحده لان التجديف بعيدا عن تيار الوطن غير متوقع وغير مفهوم، وغير مقبول، من ادباء يتمزق وطنهم اشلاء منذ نصف قرن او اكثر ، غير أن ظاهرة النضال من اجل فلسطين تتبدى كظاهرة كاسحة في تراث غسان كنفاني... ولا اخالني ابالغ عندما اقول ان التطابق يكاد يكون تاما في حالة غسان كنفاني.. فأدبه وحياته ونتاجه، بل ان كل لحظة من لحظات حياته كانت مكرسة لوطنه... ولا يقوم شاهدا على ذلك خير من حادثه اغتياله الدموية التي جاءت لتؤكد هذه الحقيقة الناطقة.

الانسان قضية

ان غسان وقضية التراب الفلسيني متمازجان الى حد الذوبان الفيزيائي أو الالتحام الكيمائي.
ففي روايته عائد" الى "حيفا" يؤكد غسان ان الانسان قضية وموقف وانتماء فهو يقول:
"الانسان قضية.. ما معنى الوطن ..؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة ريش الطاووس؟ صورة القدس المعلقة على الجدران؟
وفي مجموعة ارض البرتقال الحزين يؤكد غسان كنفاني: "ان الحياة لا قيمة لها قط، ان لم تكن دائما واقفا قبالة الموت".

ويقول: "انا لست منحدرا من صلب دولة تسأل بين الفينة والفينة عن رعاياها انا ممنوع من حق الاحتجاج ومن حق الصراخ.

وفي مجموعته القصصية عالم ليس لنا يقول:

لم تستطع العلاقات الواسعة تلك ان تدخل الى حياتنا الا شيئا بسيطا وتافها من النكهة والمذاق، وسنة بعد سنة اعتدنا ذلك النوع من الحياة، واعتدنا خشونة العلاقات ورضيناها ثمنا للعلاقة نفسها.

وكانت اغلى شيء يمكن للمرء ان يحصل عليه في ذلك المنفى.

رجال في الشمس

وفي رواية رجال في "الشمس" يترسم خطى ثلاثة رجال من فلسطين كانوا في رحلة الفرار الجهنمية من صقيع المنفى الى لظى الصحراء الممتدة بين البصرة والكويت ينقلهم في الرحلة فلسطيني آخر، عاجز، فقد رجولته في حرب فلسطين... مهربين في سيارة صهريج ماء فارغ نحو بديلهم المكاني الوهمي عن الارض طمعا في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي المفقود.
لكر البديل في النهاية لم يكن الا الموت الموت اختناقا في الصهريج وبسواعد اعجر من ان تدق جدران خزان الماء الذي يحتويهم هاربين يخنقهم هاربين تجد جثثهم نهايتها ومصيرها في ركام مزبلة صحراوية لا تسمع النداء الذي اصبحت تردده.

 رحلة فرار اخرى

وفي روايته ما تبقى لكم .. رحلة فرار اخرى للفلسطيني، عبر الصحراء تنتهي برصاصات المجابهة، ففي الصحراء الفلسطينية المحتلة يهرب حامد خجلا من عاره، بعد ان حملت اخته من رجل حقير وخائن كان قد تزوجها بلا ثمن انه يقطع صحراء يستولي عليها الاعداء قاصدا الضفة الغربية بحثا عن امه.. ملاذه الوهمي، والتي كان غيابها سببا في كارثة عاره.

لكن الصحراء التي كانت هناك، في الرواية الاولى موتا وقبراء تصبح هنا ارضا للمجابهة، فالبطل الهارب يلتقي عدوه فوق رمال الصحراء يصطدمان وجها لوجه، خنجرا وبندقية، وفي لحظة متوحدة رغم البعد المكاني، ينغرس خنجر الاخت في جسد زوجها ويلتمع نصل خنجر حامد في وجه عدوه

عائد إلى حيفا

وفي روايته عائد الى حيفا... تغيب الشخصية المحورية هنا لتستند الرواية على الحدث، لكن الاحداث تعود لتترك مكانها لهيمنة الحوار الذهني المباشر.. والحدث في الرواية محدد زمنيا وهو يتواصل مع احداث تاريخية في حيفا التي غادروها قبل عشرين عاما. بعد ان اتاح لهم الاحتلال الجديد عام ١٩٦٧ فرصة زيارة، باحثين عن طفلهم الذي خلفوه وراءهم في ذلك البيت، عند سقوط المدينة قبل تلك السنوات الطويلة، ليفاجأ بان الطفل الذي خلفوه قد اصبح ضابطا في الجيش الاسرائيلي ومدافعا عن الصهيونية والاحتلال لكنهم يجدون عزاءهم في ابنهم الآخر الذي يطمح الى الالتحاق بحركة المقاومة.

إعادة مجد الكلمة

وفي رواية العاشق... يرتد غسان كنفاني الى التاريخ الفلسطيني في سنوات الاحتلال البريطاني ليرصد ملامح البطل الفلسطيني الملحمي في التاريخ الغريب. انسان يتنكر لاسمه، ثم يعود ليتنكر لاسمه الجديد، محاولا الاختفاء عن اعين السلطات.. متخذا من الجياد رفاقا له في لحظة هربه ولحظة المجابهة، لكنه يسقط اخيرا بين يدي عدوه، وعند سقوطه تنتصب الذاكرة لتعيد تشكيل تاريخه في عنصري تكوينه.. مجابهة واختفاء.. واختفاء ومجابهة.

وهكذا يتأكد بصورة واضحة ان غسان كنفاني كان كاتبا قضيته، وكان يتعاطى فلسطين في كل ما يكتب، وكان بحجم يعايشها الى درجة التفاني والفناء فيها فكأنه كان هو القضية، وكأن القضية كانت هي غسان كانت فلسطين هاجسه الدائم، وهمه اليومي، وفرحه الازلي.. وعن قدره النضالي ككاتب يقول: "هنالك رجال ينبتون الان في ارض المسؤولية كما ينبت الشجر في الارض الطيبة، حريصون على اعادة المجد للكلمة . ملتزمون حتى ارواحهم بالوعود التي تعطيها تلك الكلمة".

ويؤكد الكاتب الفلسطيني جمال بنورة ان غسان كنفاني كاتب عاش القضية الفلسطينية.. وكتب عنها، ومات في سبيلها وقد كان متفائلا دائما، ولم يداخله الشك في ان النصر سيكون حليف الشعوب وقضاياها العادلة.
في احد احاديثه الصحفية سئل غسان كنفاني ما اذا كان متفائلا فأجاب ما نصه:

"انا متفائل الان لا لاني اطمئن للمستقبل، ولكن لاني افهم الماضي فهما موضوعيا. فلولا نضال الاحزاب الوطنية لما كانت المقاومة، فالمقاومة خطوة متقدمة للنضال الماضي.

انا متفائل لاني على استعداد لان اموت غداء دون ان اكون نادما على شيء، ودون ان اعتذر عن شيء في كل حياتي.
وقبل استشهاده بفترة وجيزة سأله مراسل غربي : هل يعني الموت شيئا بالنسبة لك ؟ فاجاب: بالطبع الموت يعني الكثير. الشيء المهم ان تعرف لماذا التضحية بالنفس في خضم العمل الثوري.

انه التعبير عن اسمى فهم للحياة فالنضال وحده هو الذي يجعل الحياة جديرة بانسان. كان غسان طافة متفجرة من العمل الثوري الذي لا يكل ولا يهن او يضعف، وحتى في اثناء مرضه كان يقول: "ان اقوى شكل يأخذه المرض هو عندما يسبب الموت، وهذا يحدث مع الانسان مرة واحدة... ولذلك ما دمت لست ميتا فسأتصرف وكأني لست مريضا.

بين الصحافة والفنون المال

ومن المعروف ان غسان كان ينكب على العمل الصحفي اليومي، والصحافة كما يعرف الجميع اخطبوط يلتهم كل طاقات العاملين فيها، وبالتالي فهي قادرة دائما على امتصاص طاقات الفنان الادبية والابداعية بحيث لا نترك من الفنان الا
بقايا.

وقد حذر عدد من الاصدقاء غسان من غول الصحافة وطغيانها الكاسح. ولكنه رد على هذا المنطق بالمقولة التالية: انا لا افهم هذا المنطق، فهذا يشبه ماكنت اسمعه في المدرسة عندما كان يقال لي : اترك السياسة واهتم بدروسك، ومثل ذلك النصائح التي سمعتها بعد ذلك في الكويت حيث كان يقال لي: اترك الكتابة واهتم بصحتك..

ويتساءل غسان هل حقا عندي خيار في ذلك، ان الاختيار الذي يتحدثون عنه ليس له وجود فلا استطيع ان اكون غير ما اناء انا اريد ان اقول شيئا، احيانا اقوله بكتابة الخبر الرئيسي في صحيفة "الغد" واحيانا بصياغة الافتتاحية، واحيانا لا استطيع ان اقول ما اريد الا بقصة.

وفي رسالته الاخيرة كتب غسان كنفاني يقول: المرض يشتد على واشعر دائما بالاعياء والتعب، ولكني لا اذهب الى الفراش، هناك احساس خفي لدى بأن الذين يقعدون لن يقوموا ابدا.

لقد كان غسان كنفاني في سباق رهيب مع الموت. ومن الراحج ان الموت لم ينل منه الا بعد ان حقق قدرا عظيما من رسالته كمناضل.

وكما يراه احمد بهاء الدين

كتب الاستاذ احمد بهاء الدين يصف صديقه الحميم غسان كنفاني.. كل من عرف غسان يعرف انه كان من اولئك الذين لهم سحر لا يقاوم.. ذكاء متقد، وظرف لاذع جميل وضحكة مشرقة بالحياة.. ولكنه ايضا على بشاشته ومظهره كان وكأن له هيكل من الصلب ..العنيف.. وقد سكنت روحه قضية بلاده "فلسطين". ولانعدام المسافة عنده بين لعقل والعمل.. فقد كان واهبا حياته للعمل الفعلي من اجل القضية غير مكتف باستخدام سلاح قلمه الاخاذ كان من اولئك القليلين الذين عرفتهم والذين لا يمكن وصفهم الا بأنهم يقطرون فناكان كاتبا سياسيا يوميا، لمع بسرعة، وصارت الصحف تتخطفه.

وكان كاتب قصص قصيرة، وروايات، ومسرحيات وكان يرسم لوحات بديعة.. وكان حتى كلامه وطريقته في الحديث كأنها أعمال فنية ولها مذاق الفن.

وكان مغرما غراما خاصا بالاطفال.. يحكي لاطفاله او لاطفالي اطفال احمد بهاء الدين اذا جاء الى القاهرة حكايات خلابه يرتجلها لهم من وحي الساعة..

وكان يرسم لهم لوحات يتخاطفونها ويعلقونها على الجدران في حجراتهم. وكان احساسي "يقول احمد بهاء الدين" انه يمكن ان يكون له في العمل السياسي بديل؟، ولكن ليس سهلا ان يكون له في الفن والادب بديل.

ويواصل احمد بهاء الدين... حديثه عن صديقه الحميم فيقول: كنت أؤمن حقا بأن في اهاب هذا الشاب الذي يعمل ويرسم ويناضل وينتج، ويضحك أربعا وعشرين ساعة في اليوم موهبة فنية من النوع النادر جدا.

وما زلت اعتقد انه لو كتبت له الحياة لصار ظاهرة فنية وأدبية.
ويعلل احمد بهاء الدين اندفاع غسان الى نهر الحياة يعب منه عبا فيقول:

لقد كان مريضا بالسكر.. منذ كان فوق العشرين بقليل، وكان يعيش بحقنة الانسولين اليومية التي تعلم ان يعطيها لنفسه كل صباح.. هل كان لذلك كالمصباح المتوهج المتقد اربعا وعشرين ساعة في اليوم لا يخفت ولا تنطفىء جذوته ابدا..

وكما يراه يوسف ادریس

وفي معرض تقديمه لاعمال غسان كنفاني الكاملة، كتب يوسف ادريس عملاق القصة القصيرة في الادب العربي المعاصر
يقول:

لم أحس بفخر ابدا اني اكتب القصة القصيرة، لا شيء من ذلك برأيي كان يدعو الى الفخر، ولكن الفخر اني كاتب قصة قصيرة احسسته مرتين في حياتي.

والغريب ان المرتين كانتا تتعلقان بغسان كنفاني.

الاولى حين استشهد على تلك الصورة المروعة وكان استشهاده نهاية القمة لحياة كاتب يمت الى هذا العصر، والى هذا الشعب والى قضية مثل قضيته.

ويقول يوسف ادريس ان قيمة الكاتب الفنية تستمد كمها وكيفها من القضية، بمقدار صدقه تكون قيمته بمقدار دأبه الملح على الصدق وسبر اغوار الحقائق للوصول الى حقيقة الحقائق بمقدار عمق الايمان يكون عمق الموهبة. الاصالة هي من اصالة قضيتك والعبقرية هي ان تصل بأيمانك وتعبيرك عن هذا الايمان حدا لا يصله غيرك.

لن تجد عبقريا واحدا الا وهو مؤمن ومهووس الايمان بقضية الى حد يعجز.

احسست لاول مرة في حياتي بفخر اني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني. فحين انتهت حياته هكذا انتقل من خيز الكتاب الى حيز الابطال وكان اول كاتب قصة يفعل هذا بل كان اول كاتب في تاريخ ادبنا العربي يعيش قضيته الى حد الشهادة.

والمرة الثانية، حين تفضل الاصدقاء وعهدوا ال بكتابة تقديم لقصص غسان كنفاني، فمن انا حتى اقدم كاتبا رفع عن الادب العربي كل عاره، وغسل بدمه تقاعس مئات السنين من انا؟ وماذا فعلت للقضية كي اقدم كاتبا فعل من اجلها ما أصبح في عداد الاساطير.

وعندما اخذت اقرأ غسان.. لم احاول ان اكون موضوعيا، فما معنى ان نكون موضوعيا هنا؟

وهل من الممكن ان تضبط انفعالك بحيث تقرأ قصة لغسان بعد مصرعه بنفس الاهتمام، والانفعال اللذين تقرأ بهما قصة لفلان وقد كتبها من مكتب وثير فاخر.

ان كل كلمة هنا، ليست مجرد كلمة مأخوذة من لغة انها كلمة ذات ثمن كلمة لهارصيد اغلى انواع الرصيد، حياة كاتبها ان الجمل التي جاءت على لسان "جيفارا" في مذكراته لا تختلف من الناحية الموضوعية كثيرا عن الجمل التي يتشدق بها الثوار في كل مكان، ولكن جمل جيفارا ستخلد وستبقى لانها جمل من دم ولحم وحياة اذا كانت تشبه غيرها فحياة جيفارا ومصرعه هي التي تضع ذلك الفارق الهائل المميز.

ومن هنا ايضا نجد الفارق. ثمة شيء لا بد قد حدث لقصص غسان كنفاني باستشهاده كانت كلاما فأصبحت صدقا، كانت تحيا معنا على الارض فارتفعت الى السماء، كانت تماثيل يضمها مخزن فوضعت كل منها فوق اعلى قاعدة التمثال ان الشهيد لا يخلد وحده باستشهاده كلماته ايضا تستشهد معه وباستشهادها تستحيل من كلمات ذات حياة موقوته فانية الى كلمات حية على الدوام، صادقة على الدوام، مضيئة بمزيج اسطوري من النبل والسحر وجلال الانبياء.

لقد كانت فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان وموضوع رواياته ومقالاته وقصصه القصيرة، كانت ايضا موضوع حياته وموضوع موته.

وهنا تكمن عبقرية غسان، هذا الاخلاص الكامل للقضية مع الصدق الكامل لهذا الاخلاص جعله يستطيع ان يكتب كل هذه الاعمال، ومعظمها فنية دون ان يكرر نفسه مرة، أو يتحدث عن الشيء الواحد مرتين، بل لا اريد ان ابالغ واقول ان موضوعه الواحد لم يكن فلسطين كلها دائما، كان شريحة واحدة من القضية هي موقف الفلسطيني من قضية فلسطين اي اعجاز.

لقد كنت احيانا اضع الكتاب جانبا وأتأمل عمق احساس هذا الانسان بقضيته وشعبه، ايمكن ان تبلغ الحساسية هذه الدرجات القصوى من الرهافة والدقة انه شيء لا يمكن ان يحدث الا اذا كان الكاتب يحيا ويؤمن باطراف انامله بلحظات حبه، بنوبات اكتئابه بالدمعة اذا ذرفها باطراف اطراف فراشه
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-